المقصود من البرنامج العبادي هو مجموع الصلوات والدعوات والأذكار التي كان يقوم بها أهل البيت (عليهم السلام) في هذا الشهر الفضيل.
يقول الشاعر السبزواري (قدس): في كل نفس ذكر لله سبحانه.
ليس هناك شيء في الوجود لا يذكر الله عز وجل، والملائكة يحصون الأنفاس ويعرفون لأي شيء نتنفس وعندما يكون العالم أجمع ملكاً لله، وجميع أعضائنا حراساً للحق جل وعلا، ويريد الله سبحانه أن يأخذ أحداً، فإنما يأخذه بأعضائه وجوارحه، فليس من شيء إلا وهو ملك لله عز وجل.
ولعبارة (الصوم لي)، خصوصية يريد الله أن يبينها، فالصيام ملك الله سبحانه والإنسان يمسك منذ الفجر حتى الإفطار، وهذه درجة للصائم، بها يسعى لئلا يحترق بالنار وأن يدخل الجنة، (جنات تجري من تحتها الأنهار)، (آل عمران: 189) الجنة التي يقول عنها (فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)، (آل عمران: 15) فالذي كل همه وتفكيره بحلول وقت الافطار، ويشعر بالارتياح عند إفطاره وكأنه انتهى من عذاب الصيام، لا يصل إلى الحرم الإلهي، ولا إلى لقاء الله عز وجل، فإلى جانب أحكام الصيام وآدابه الخاصة به، هناك سر وهو لقاء المحبوب ألا وهو الله عز وجل.
هذا الحديث يوجد الشوق في الإنسان ومن ثم يجعله عاشقاً فالإنسان بغير الشوق لا يتحرك ولا يسعى، عندما يكون الصيام لله، فماذا يعطى للصائم؟ إن الله نفسه يعطي الصائم ثوابه، وبتعبير المرحوم.
يقول محمد تقي المجلسي ـ قدس الله نفسه الزكية ـ في كتاب روضة المتقين في شرح كتاب من لا يحضره الفقيه ـ الذي هو من كتب الإمامية القيمة ـ، [روضة المتقين: ج3، ص225] إن الله عز وجل لم يكتف بالقول (الصوم لي) بل قال: (وأنا أجزي به) وهنا قدم ضمير المتكلم على الفعل، ولم يقل وأجزي به، بل قدم نفسه تعالى وقال: الصوم لي وأنا أجزي به، أنا أعطي ثواب الصائم، فالله سبحانه لا يقول للملائكة: أدخلكم الجنة ولكن يقول: أنا أجازي الصائم، فكيف يجازي الله الصائم؟ إنه يقول لمجموعة من البشر: (فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)، (الفجر: 30) فهي لأولئك الأولياء الربانيين الذين يصومون الصيام المستحب، ويعطون إفطارهم لليتيم والمسكين والأسير، وأولئك تكون (جنات تجري من تحتها الأنهار)، باختيارهم وتحت تصرفهم، لأنهم يسعون لمطلب أسمى، أما الذي يصوم لكي يدخل الجنة ويأكل من فاكهتها، فلا يحصل إلا على فائدة واحدة فقط.
يقول سبحانه في هذا المقام (الصوم لي)، الصوم ملكي، وأنا بنفسي أجازي الصائمين، وأنا لا غيري أعطيهم ثوابهم، في الأعمال الأخرى عند حضور الموت، تأتي الملائكة لاستقبال المؤمنين وتقول (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين)، فأبواب الجنة لكم مفتوحة، فادخلوا من أي باب شئتم، لكن بخصوص الصيام يقول: أنا أجزي به، إن هذا ليس من أحكام الصيام، ولا من آدابه، وليس من بحوث الواجب والمستحب للفقه، بل هو من أسرار العبادات التي يتكفل بها علم آخر غير علم الفقه، فكيف يصل الإنسان إلى مقام يكون الله عز وجل فيه هو المتعهد بالثواب؟ فالله تعالى يقول في وصف المتقين: (إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر). (القمر:
في دعاء السحر لشهر رمضان المبارك يدعو الإنسان لينال هذا المقام، فالصائم يسأل الله عز وجل: (الله إني أسألك من جمالك بأجمله وكل جمالك جميل).
يصور النظامي گنجوي الشاعر المعروف في خماسيته ـ العشق المجازي والحقيقي ـ فيقول: لما مرضت ليلى في نهاية الأمر أوصت أمها أن تقول للمجنون: ـ إذا أردت أن ترط قلبك بموجود، فلا يكن موجوداً يموت بسبب حمى تصيبه.
من الخسارة أن يربط الإنسان قلبه بالمتغير الذي لا يحدث علاقة مع نفسه، ولا مع الله سبحانه، فغير الله لا يمكن أن يكون جزاءً للإنسان بل جزاء الإنسان لقاء الله، لهذا نقرأ في دعاء السحر لشهر رمضان: (نسأل الله من جماله المطلق) فيجب أن لا يكتفي الإنسان بمساع الدعاء فقط، لأن السماع غير الطلب، فأي مقام هذا الذي تيسر للإنسان من هذا الدعاء: (اللهم إني أسألك من نورك بأنوره وكل نورك نير)؟ لماذا علمنا هذا الدعاء في شهر رمضان المبارك؟ لأن هذا الدعاء يليق بالإنسان الصائم وهذا الفم يستطيع أن يقول (اللهم إني أسألك من جلالك بأجله وكل جلالك جليل).
ليس الكلام عن الحور والولدان، أو الثمار والفواكه، وليس من الجنات والأنهار، بل هو كلام عن الكمال المعنوي وهذا هو المقام اللائق.
والأئمة (ع) فوق كل هذه المقامات، فلو لم يكن هذا المقام لنا، لم نكلف بالدعاء لمثله فلو لم يستطع الإنسان العادي الوصول إلى هذا المقام، لما أمكن أن تصل إليه الخادمة فضة، إذن فبلوغ هذا المقام أمر ممكن إن بوسع الإنسان أن يصوم مستحباً، ثم يعطي إفطاره لشخص غير مسلم، إذ لا يرضى الإسلام أن يبقى إنسان جائعاً، وإن كان غير مسلم.
مسألة الوقف من أحكام الفقه الإسلامي، فيستطيع الإنسان أن يوقف بستاناً أو دكاناً أو بيتاً على الكفار، من أجل أن لا يبقوا جياعاً، وإذا سقى الإنسان ظامئاً ـ وإن كان كلباً ـ فثوابه الجنة، لقوله (ص): “لكل كبد حراء أجر”، وإذا صام الإنسان صوماً مستحباً وأعطى ما صنعت يداه من طعام، لأسير ثم قال: (إنما نطعمكم لوجه الله)، فإذا كانت تلك الخادمة في بيت الأئمة (ع) قد وصلت إلى ذلك المقام، فنحن أيضاً نستطيع الوصول إلى هذا على أن لا نستهين بأنفسنا وإلا فنحن خاسرون.
ينقل المرحوم الكليني في كتابه القيم الكافي، رواية لطيفة عن الإمام الكاظم (ع) ويشرحها المحقق الداماد ببيان بديع حيث يقول (ع): “لا تبيعوا أنفسكم إلا بالجنة”، يقول المرحوم الداماد: إن هذه ناظرة إلى روح الإنسان، فروح الإنسان فوق الجنة، فبيعوا أرواحكم بجنة اللقاء.
يجب أن تكون أرواحكم “عند مليك مقتدر” والصيام أفضل طريق لايصال الروح إلى الله تعالى.
(للصائم فرحتان: عند الافطار وعند لقاء الله)، فالصائم يفرح مرتين، مرة عند إفطاره والأخرى عند لقاء الله وإذا كانت نية الصائم لقاء الله سبحانه، فإنه سينال الفرحة الثانية، فالصائم يشكر الله عند الافطار على توفيقه للطاعة، يشكره لأنه لم يسافر، أو لم يمرض، أو لم يسلط عليه الشيطان، فلم يملأ بطنه من الطعام والفرحة الثانية عند لقاء الله تعالى.
وفي البدء ينبغي الإشارة إلى مسألة جانبية مهمة، وهي ان العبادات التي يقوم بها أهل البيت(ع) وان كانت غير متيسرة ـ عادة ـ لكل إنسان، لكن ينبغي ان تشكل حافزا لكل مؤمن ومؤمنة لزيادة العبادات والمحافظة عليها، لا ان تكون صعوبتها ومشقتها عاملا سلبيا في حياتنا، كما قد نجد ذلك عند البعض، عندما نذكر له عبادة رسول الله(ص) أو أمير المؤمنين (ع) فانه يجيبنا بأنني لا أقوى على ذلك، أو كما يقال في اللغة العامية (احنه وين وهمة وين) أو (اجابنه الهم).
وهذا الكلام في الواقع يصنف في حقل التبريرات التي يصدرها أمثال هؤلاء الناس لتبرير كسلهم وتقاعسهم وتراجعهم الديني والعبادي، إذ الصحيح ان تشكل تلك العبادات الراقية حافزا قويا لتحسين عباداتنا والاعتناء بها لتصل إلى مستوى أفضل وأكمل.
يقول الرسول (ص): “أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها وأحبها بقلبه، وباشرها بجسده، وتفرغ لها، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا على عسر أم على يسر”. [أصول الكافي (ج2) باب العبادة الحديث . فهنيئاً لمن يحب العبادة ويعشقها ويعانقها، لمن يحسها بكل وجوده ومشاعره وطوبى للمصلين وللصائمين الذين عشقوا العبادة.
يمدح هذا الحديث عشاق العبادة، فاضل الناس ذلك الذي أحب العبادة وعشقها، إذ كان مشتاقاً أولاً ثم أصبح عاشقاً، فما هو العشق إذن؟ ومن أين أخذت هذه الكلمة؟
قالوا: إن هذه الكلمة مأخوذة من كلمة عربية، وهي أسم نوع من النبات يسمى (عشقة)، فهي مشتقة من اسم هذا النبات، عشق في اللغة العربية، هي أن يلصق ذلك النبات نفسه بالشجرة ولا يتركها، بل يعيش عليها ويمتص قوتها حتى تذبل الشجرة وتموت، فيقال للشجرة: أصابتها عشقة، فالعاشق إنسان إصابته العبادة، فاصفر لونه وضعف بدنه، حتى تخلى عن نفسه، والحديث الشريف يصف العشاق بأنهم أفضل الناس، لأنهم عشقوا العبادة فالعاشق قد ضعف بدنه واصفر لونه، لأنه أهمل نفسه.
ولذا قالوا: إن من أسرار الصيام هو أن يقل النشاط الحيواني للإنسان، مثل الشجرة التي أصابتها عشقة فلا تنمو، تقول بعض الروايات: ما الصيام إلا لكي تذهب الطراوة والنشاط والحيوية التي حصل عليها الإنسان في غير شهر الصيام (رمضان) لأنه نشاط كاذب، وعندما يصوم الإنسان وتحدث بينه وبين الصيام علاقة، يصل بالتدريج إلى باطن الصيام، فباطن الصيام يقرب من الله تعالى “الصوم لي وأنا أجزي به”، [روضة المتقين ج3، ص225]. وهذا التعبير خاص بالصيام فقط ولم يأت لبقية العبادات يتدرج الإنسان في صيامه من الدرجة الواطئة في معرفته للأسرار إلى الدرجة العالية التي هي لقاء الحق سبحانه.
لقد بينت الروايات بعض الحكم الظاهرية للصيام يسأل هشام بن الحكم الإمام الصادق (ع): لماذا أصبح الصيام واجباً على النا؟ فقال (ع): “إنما فرض الله ـ عز وجل ـ الصيام ليستوي به الغني والفقير وذلك إن الغني لم يكن يجد مسَ الجوع فيرحم الفقير لأن الغني كلما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد الله ـ عز وجل ـ أن يسوي بين خلقه وأن يذيق الغني مس الجوع والألم ليرق على الضعيف فيرحم الجائع”، [علل الشرائع]. لأن الفقير والغني في الامساك عن الطعام سواء، حيث يحرم عليهم الأكل والشرب، فالناس الأغنياء لا يشعرون بالجوع والعطش وهم بالصيام يحسون بهما، ومن ثم يحسون بجوع الفقراء لهذا فرض الصيام عليهم ليتعاونوا مع الفقراء، وهذه أقل درجة من معاني الصيام.
على الإنسان أن لا يملأ بطنه طعاماً في غير شهر رمضان، حتى يحس بجوع الفقراء، أو في الأقل حتى لا ينسى أن هناك فقراء في العالم، فالله سبحانه يريد أن يساوي بين الجميع، ليطلع الأغنياء على جوع الفقراء.
وهذا الحديث الشريف يبين جزءاً يسيراً من معاني الصيام، ولرب سائل يقول، إذا كانت علة الصيام هي هذه فلماذا يصوم الفقراء؟ ليس الصيام أن يجوع الإنسان ويعطش، وليس هو الامتناع عن الأكل والشرب، إنما الصوم يصل بالإنسان إلى التقوى والكرامة ـ الكرامة التي وصفت بها الملائكة ـ.
يذكر الإمام علي بن موسى الرضا (ع) علة الصيام في رسالته التي بعثها إلى ابن سنان يقول: “العرفان مس الجوع والعطش ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً صابراً ويكون ذلك دليلاً له على شدائد الآخرة مع ما فيه من الانكسار له عن الشهوات واعظاً له في العاجل دليلاً على الآجل ليعلم شدة مبلغ ذلك من أهل الفقر والمسكنة في الدنيا والآخرة”. [علل الشرائع].
ولنعد إلى صلب الموضوع، فنقول ان البرنامج العبادي عند أهل البيت (عليهم السلام) في هذا الشهر المبارك على قسمين.
الاول:- أعمال عامة يقوم بها المكلف كل يوم من أيام هذا الشهر.
الثاني:- أعمال مخصوصة في بعض الليالي والأيام.
وفي هذه المناسبة لا أريد الحديث عن القسم الثاني منها بل سأقتصر على بيان القسم الأول مع الاختصار.
والإعمال العامة في هذا الشهر على أنواع ثلاثة.
1 صلوات.
2 أدعية.
3 أذكار وتسبيحات.
أما الصلاة فتستحب صلاة ركعتين في كل ليلة يقرا في كل ركعة الحمد والتوحيد ثلاث مرات، ثم يقول بعد التسليم (سبحان من هو حفيظ لا يغفل سبحان من هو رحيم لا يعجل سبحان من هو قائم لا يسهو سبحان من هو دائم لا يلهو) ثم يسبح التسبيحات الأربع سبع مرات ثم يقول( سبحان سبحانك سبحانك يا عظيم اغفر لي الذنب العظيم) ثم يصلي على النبي (ص) عشر مرات، وجاء في ثوابها ان من صلى هذه الصلاة غفر الله له سبعين الف سيئة].
وتستحب أيضا الصلاة ألف ركعة، ولها كيفيات مختلفة، فالمروي عن الإمام الجواد(ع) ان يصلي منها في كل ليلة من الليالي العشر الأولى، والثانية عشرين ركعة يسلم بين كل ركعتين فيصلي منها ثمان ركعات بعد صلاة المغرب، والباقية وهي اثنتا عشر ركعة تؤخر عن صلاة العشاء، وفي العشر الأخيرة يصلي منها كل ليلة ثلاثين، يأتي بثمان منها المغرب أيضا، ويؤخر الباقي عن العشاء، فالمجموع يكون سبعمائة ركعة، وهي تنقص عن ألاف ركعة، ثلاثمائة ركعة، وهي تؤدى في ليالي القدر، من هذه الليالي بمائة ركعة منها فتتم الألف ركعة].
وأما الأدعية فهي كثيرة سأقتصر على بعضها.
1 ان يدعو في كل ليلة بدعاء الافتتاح.
2 ان يدعو عند الإفطار (الهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، وعليك توكلت) ليهب له تعالى مثل اجر كل من صام ذلك اليوم.
3 ان يدعو عند السحر بدعاء (البهاء) المنسوب إلى الإمام الباقر(ع).
4 ان يدعو عند السحر أيضا بدعاء أبي حمزة الثمالي، فقد روي ان الإمام زين العابدين (ع) كان في شهر رمضان يصلي عامة الليل وفي وقت السحر يقرا هذا الدعاء.
وهناك الكثير الكثير اقتصرت على هذا خوف الإطالة فمن أراد المزيد فعليه بمراجعة كتاب (مفاتيح الجنان).
وأما الأذكار والتسبيحات فهي كثيرة أيضا اذكر بعضا منها.
1 أفضل الأذكار في شهر رمضان تلاوة القران الكريم وفي الحديث ( ان لكل شيء ربيع، وربيع القران هو شهر رمضان).
ويستحب ختم القران في شهر رمضان في كل ثلاثة أيام، وان تيسر له ان يختمه في كل يوم، فليفعل، فقد روي عن بعض الأئمة (ع) انه كان يختم القران في شهر رمضان أربعين ختمة.
2 تلاوة سورة القدر في كل ليلة ألف مرة، وكذا يتلوها عند الإفطار وعند السحور وتلاوة سورة الدخان في كل ليلة مائة مرة، ان تيسر ذلك.
وفي الحديث (ما من مؤمن صام فقرا (إنا أنزلنا في ليلة القدر) عند سحوره وعند إفطاره إلا كان فيما بينهما كالمتشحط بدمه في سبيل الله ).
3 الصلاة على النبي (ص) في كل يوم مائة مرة، والأفضل ان يزيد عليها.
وعن الباقر (ع) أنه قال: “بني الإسلام على خمسة أشياء، على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية”، [الآمالي للشيخ المفيد]. فالصيام ركن من أركان الدين، وهو يبطل بشرب قطرة من الماء، فهل هذا هو ركن الدين؟ أم أن سر الصيام هو ركن الدين؟
قال النبي (ص): “الصوم جنة من النار”، [روضة المتقين ج3، ص225]. فالصوم حرز من نار الدنيا والآخرة وهذه بعض معاني الصيام الباطنية.
قال (ع) يقول الله تبارك وتعالى: “الصوم لي وأنا أجزي به”، [روضة المتقين ج3، ص225]. إن كل موجودات عالم الإمكان من الله سبحانه فليس من شيء خاضع لملك أحد غيره، فكل مخلوق مملوك لله سبحانه، وأعيننا وآذاننا ملك له أيضاً.
(أمن يملك السمع والأبصار)، (يونس: 31) فالله عز وجل هو المالك للعيون والآذان، وهو قادر على كل شيء، فليس تمام حركات العين والأذن تحت اختيارنا، إذ يسلب منا الاختيار في بعض الأحيان، فلا نستطيع فتح عيوننا وإغلاقها، وهذا ما يحدث أيضاً حال الموت، وإذا لم يوجد من يغلق عين الميت عند موته، أصبح منظره مخيفاً.
سئل الرسول (ص) عن سبب جزعه وخوفه من الله عز وجل فقال: “لأنه ليس بمقدوري أن أغمض عيني دون قدرته، وكذلك ليس بمقدور الإنسان أن يبلغ الماء الذي يشربه”، ليس هناك شيء خاضع لملك غير الله سبحانه، فكل الموجودات مخلوقات الله وهي بالنهاية مملوكة له.
يقول أمير المؤمنين (ع) راقبوا أعمالكم فإن تمام أعضائكم وجوارحكم هي جنود الحق سبحانه فإذا اراد الله سبحانه أن يأخذ أحداً فيأخذه بلسانه ويده ورجله: “واعلموا عباد الله أن جوارحكم جنوده وخلواتكم عيونه”، [نهج البلاغة الخطبة (157) الخطبة (199)]. فإذا أراد الله عز وجل أن يأخذ الإنسان للحساب أشهد عليه يده وجوارحه، فلا يحتاج إلى شاهد يشهد عليه، بل يلزم بجوارحه، فيقول (ع): راقبوا أنفسكم في الخلوات لأنكم في محضر الله ـ عز وجل ـ وعلى مرأى منه سبحانه.
لله عز وجل جنود يحصون أنفاس الخلائق، ليعلموا من أجل أي شيء تنفس أحدهم، لماذا تكون الأنفاس تسبيحاً في عزاء الإمام الحسين (ع)؟ وفي شهادة بقية المعصومين (ع) “نفس المهموم لنا تسبيح”، فإذا تأوه الإنسان لمظلومية أهل البيت (ع) فهي عبادة، لأن هذا النفس محسوب للإنسان.
تنفس عمار بن ياسر بعمق في حضرة الإمام علي (ع) فقال (ع): لأي شيء تنفست بعمق؟ نفسك هذا علامة تأثر وحسرة، فإذا كان من أجل الآخرة فهو شيء حسن وإذا كان من أجل الدنيا فسأوضح لك حال الدنيا لتعرف أنها لا تستحق الحسرة، والذي يعرف الدنيا لا يتحسر عليها.
يا عمار، جميع اللذات الدنيوية مخلوطة بالألم والعذاب، وأفضل لذات الدنيا الأكر والشرب والملبس، وأفضل غذاءه يأكله الإنسان وأفضل لباس نتاج دودتين: فأفضل غذاء هو العسل المصفى والذي يخرج من بطون النحل، وأفضل قماش يلبسه هو الحرير الذي تصنعه دودة القز إذا كنت تتحسر على الأكل فأنت معذب من أجل دودة.
فالإنسان العاقل لا يتحسر من أجل الدنيا، وإذا كانت حسرته للآخرة فطوبى له، فأهل المعرفة يذكرون الله سبحانه في كل نفس، فأين نحن من هؤلاء؟
مرض أحد أصحاب الأئمة (ع)، فزاره الإمام مع مجموعة من أصحابه÷ فوجدوه راقداً على فراش المرض وهو يقول: آه! فقال أحدهم له: لماذا لا تقول يا الله؟ فقال الإمام (ع): “آه، من أسماء الله تعالى”، [توحيد الصدوق، باب أسماء الله تعالى ص219]. إذ أن الشخص الذي يقول آه، يذكر اسم الله تعالى، فهو يطلب الطبيب المعالج علم أم لم يعلم.
* المقالات المنشورة بأسماء أصحابها تعبر عن وجهة نظرهم ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع
صلاح الاركوازي