في اعدادنا لهذا الموضوع كغيره اعتمدنا على مصادر كثيرة ولكن مايميز هذا الموضوع عن سابقاتها هو بعده الروحيوالايمان والاتصال المباشر بالله جل وعلا ولبشير وتطبيق النهج المحمدي الصحيح والسليم في الاعمال والتوقيتات، وذلك لان الحديث عن شهر رمضان جوانب متعددة ومختلفة، منها ما يرتبط بفلسفة الصوم، ومنها ما يرتبط بفقهه وأحكامه، ومنها ما يرتبط بأخلاقياته وجوانبه الروحية، ومنها ما يرتبط بغير ذلك، وقد تناول هذه الجوانب الكثير من الكتاب والباحثين والخطباء، وقد أشبعوها بحثاً وتفصيلاًلذا رأيت من المناسب في هذه الفرصة ان أتناول شيئاً نادراً لم يُشبع بحثاً، بحيث يتناسب مع أهميته وفائدته، وهو ما يرتبط بالجانب التربوي والمنهاج العملي في شهر رمضان عند أهل البيت(عليهم السلام)، واقصد به، ماذا كانوا (ع) يصنعون في هذا الشهر الفضيل، وكيف كانوا يصومون، وماذا يأكلون عند السحور وعند الإفطار وماذا كانوا يقرأون من الأدعية والأذكار في الأوقات المختلفة، وبماذا كانوا يوصون أتباعهم في هذا الشهر؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تكشف عن المنهاج التربوي عندهم (ع).
كل عبادة ظاهر وباطن، فالأحكام الواجبة والمستحبة تعين الشكل الظاهري لهذه العبادة، أما الإرادة والنية فهما يعينان باطن هذه العبادة، والقرآن الكريم يدعونا إلى ظاهر العبادة، ويعرفنا أسرار العبادات، ففي خصوص الصيام يعرفنا اصله وشهره وساعاته وبدايته وخاتمه، وكل خصوصيات هذا الشهر المبارك، (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، (البقرة: 185) فإذا شاهد أحد هلال شهر رمضان فعليه أن يصوم، ويقول في مكان آخر: (أتموا الصيام إلى الليل)، (البقرة: 187) فيكون الليل ختام الصوم، أما بدء الصيام فيقول: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)، (البقرة: 185 ـ 187) وأما سر الصيام فقال: (لعلكم تتقون) (البقرة: 183) (ولعلكم تشكرون)، (البقرة: 185) فالإنسان يصوم ليكون تقياً، وقد جعل الله التقوى مدار كرامة الإنسان، فأكثر الناس يصوم ليكون تقياً، وقد جعل الله التقوى مدار كرامة الإنسان، فأكثر الناس تقوى أكثرهم كرامة، إن باطن الصيام أن يصبح الإنسان مكرماً، وقد تكلمنا على الكرامة في البحوث الماضية، وقلنا: إنها من الأوصاف البارزة للملائكة، فالملائكة كرام، والكريم غير الكبير وغير العظيم وغير المحترم.
ليست الكرامة هي العظمة والكبرياء، بل هي صفة متميزة وبارزة، نريد أن نوضحها، فنجد أنفسنا مضطرين لاستخدام عدة كلمات لتأدية المعنى.
الكرامة مخصوصة بالملائكة، وفي القرآن الكريم خطاب لنا، أن صوموا لتكونوا كراماً يعني حتى تكونوا أتقياء، إذ التقوى محور الكرامة، فالإنسان الكريم لا يرتكب الذنوب، ليس من أجل أن لا يذهب إلى النار، أو من أجل أن يدخل الجنة، بل لأنه إنسان لا يرتكب الذنوب، ولأن الكرامة لا تتناسب مع المعصية.
يقول الإمام الصادق (ع): “لا نعبدهم إلى حباً، هل الدين إلا الحب!؟) يقول تعالى: (إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون)، (الواقعة: 77 ـ 79) وهذا جزء من الأسرار التي لا يصلها أي أحد كان، فكما أن باطن القرآن في الكتاب المكنون: (لا يمسه إلا المطهرون) فهكذا حب العبادة، أي أنه ليس بمقدور كل أحد أن يحب العبادة ويحب المعبود، فالله سبحانه أمل المشتاقين، “بمحبتك يا أمل المشتاقين”، فالشوق هو الذي يجذب الإنسان نحو الله سبحانه وليس إلى الجنة، فهو أمل المشتاقين والأمل غير الرجاء الأمل هو الذي يجعل من الإنسان الذي لا يتحمل، إنساناً صبوراً، متحملاً هادئاً، يأمل الإنسان شيئاً، وآخر يتمناه وهو دائماً يسعى لأن يحقق ما يتمناه، فالذي لا يشتاق إلى الله لا يصلح أو لا يصح أن نصفه بالشوق، الشوق الصادق وهو الذي لا يرى فيها الإنسان غير الله سبحانه في البداية يكون الشوق، ثم يكون العشق، والمشتاق هو الذي لا يملك الشوق بل يطلبه، أما العاشق فهو الذي يملك العشق.
هذا هو الفارق بني الشوق والعشق، إذ يقال للعطشان الذي يسعى للوصول إلى عين الماء: أنه مشتاق للماء، وعندما يصل إلى الماء ويأخذ منه ويحتفظ به يقال له عاشق الماء، فالشوق قبل الوصول والعشق بعد الوصول.
استقبال شهر رمضان يُعَدّ شهر رمضان من أفضل شهور السنة عند الله؛ فهو شهر الصيام والقيام، وهو شهر عظيم للتزوُّد فيه من الخير، وهو الشهر الذي أنزل الله فيه القُرآن؛ لقوله -تعالى-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ)، وينقسم الناس في استقباله إلى صنفَين؛ صنفٌ يتّبعون فيه سُنّة النبيّ -صلّى الله عليه واله وسلّم-، وصحابته الكرام؛ باستقباله بالدعاء، والفرح بقدومه، والاستعداد للعبادة فيه، والتقرُّب إلى الله، وصنفٌ يتثاقلون منه ومن صيامه، ولا يفرحون بقدومه، ويعدّون أيّامه كأنّه ضيف ثقيل عليهم، ويفرحون بانتهاء الصيام فرحاً شديداً لزوال هذا الشهر، ولا يتّبعون فيه سُنّة النبيّ –ص واله .
فإذا كان الصيام لأجل أن يكون الإنسان متقياً، فبالتقوى يحصل الإنسان على درجتين: الأولى هي الجنة التي فيها نعم الله الكثيرة: (إن المتقين في جنات ونهر) وفيها اللذات الظاهرية، والآخرى عند الله: (في مقعد صدق عند مليك مقتدر)، الكل يعمل من أجل هذه الدرجة وعندها لا يكون للأكل والشرب محل أو كلام، فأنواع الثمار والفاكهة هي للبدن، والجنة والأنهار لأجل الجسد، أما لقاء الله فهو للروح وهذا هو سر وباطن الصيام.
قال تعالى لموسى (ع): لماذا لم تناجي يا موسى؟ فقال موسى (ع) مناجياً ربه: إني صائم والصائم تنبعث من فمه رائحة غير طيبة، فقال له الله عز وجل موضحاً هذا الأمر: إن هذه الرائحة طيبة عند الملائكة، فلا يمنعك ذلك من المناجاة.
نقلت هذه الروايات عن الرسول (ص)، وكذلك نقل عنه في ذيل الحديث القدسي “الصوم لي وأنا أجزي به” أنه قال (ص): “للصائم فرحتان حين يفطر وحين يلتقي ربه ـ عز وجل ـ” ثم قال: “والذي نفس محمد (ص) بيده لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك”، فالرسول (ص) يقسم بذات الله أن رائحة فم الصائم هي أطيب عند الله ـ عز وجل ـ من رائحة المسك، وهذه هي الآثار الظاهرية.
أما إذا قرئ الحديث بصيغة المجهول: (الصوم لي وأنا أجزى به) فيصبح المعنى: أني أنا أكون جزاء الصائم، ويكون جزاؤه لقائي وشهودي، وفي هذا دلالة واضحة ولكن القراءة الأولى هي الأصح.
وقبل الخوض في غمار الموضوع لابد من تقديم مقدمه يتضح من خلالها معنى الصوم وحقيقته عند أهل البيت (ع) باختصار.حقيقة الصومهناك إرادتان، الأولى هي (إرادة إلهية) والثانية (إرادة إنسانية)، ويمكن ان نعبر عنهما بطريقه أخرى هي: ما يريده الله تعالى، وما تريده النفس الإنسانية، الثانية تريد إشباع غرائزها وشهواتها وممارسة لذائذها بحرية تامة، دون قيد أو شرط، متى شاءت وكيفما رغبت، بينما الأولى، لا تريد ان تطلق العنان للإرادة الثانية، ولا تريد لها ان تمارس رغباتها بحرية مطلقة، لان في ذلك تجاوزاً لحدود الاستقامة المطلوبة، وتعدياً على الحرمات المفروضة.
لهذا فالإرادتان تتقاطعان في أحيان كثيرة، وتختلفان غالباً، فلهذا لابد من التنسيق بينهما والتوفيق.
فلابد ان تخضع الإرادة الإنسانية إلى الإرادة الإلهية، وتطيعها، وتستجيب لها، ولا تخالفها، إطاعة العبد لمولاه، والولد لأبيه والمرؤس لرئيسه…
وإذا أردنا معنى دقيقاً، فان المطلوب ان تصبح الإرادة الإنسانية جزءاً من الإرادة الإلهية، لان إرادة الإنسان تمثل إرادة الله تعالى في الأرض، إذ الإنسان خليفة الله تعالى ونائبه، قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»
إذا جعل الله تعالى الإنسان خليفة له لينفذ مشيئته في الأرض ويحقق أهدافه وغاياته وذلك يستدعي ان تكون إرادة الإنسان إرادة إلهية، لا تتعداها ولا تقصر عنها.
ومن اجل تطبيع الإرادة الإنسانية، عمد الشارع المقدس إلى تدريب هذه الإرادة على إطاعة إرادته والخضوع لها، فاختار وسيلةً سهلة لذلك، وبرنامجاً مبسطاً يستطيعه كل إنسان مكلف، يلتزمه شهراً كاملا في كل سنة.
وحاصله: ان يترك المكلف بعض المباحات مثل (الطعام) و(الشراب) و(الجماع) وغير ذلك نهاراً كاملاً، ليقوى بذلك على ترك المحرمات، لأنه حينئذٍ سيتمكن من التحكم بإرادته، يأكل أو يمتنع عنه، يجامع زوجته أو يمتنع عن ذلك.
وبتعبير أخصر، يمكنه ان يفعل، وان لا يفعل، فهو مختار في ذلك ولا سلطان للشهوة عليه، فيتحرر بذلك من أسرها وعبوديتها، ومن المعلوم ان أقوى شهوتين عند الإنسان هما شهوة البطن وشهوة الفرج، فإذا استطاع ان يجمحهما نهاراً كاملاً لمدة شهر قوي عليهما في كل حين، لذا ورد في الخبر الصحيح عن أبي جعفر(ع) انه قال: «ما عبد الله بشيء أفضل من عفة بطن وفرج»، وورد أيضا في بعض النصوص، يستحب للصائم الحضور عند من يأكل.
فعن أبي عبد الله(ع) قال: «إذا رأى الصائم قوماً يأكلون أو رجلاً يأكل سبحت كل شعرة منه»
وما ذلك إلا لتقوية هذه الإرادة، وتربية النفس على مجاهدة الشهوة ودفع الرغبة، وبذلك تتحول النفس، من نفس مقهورة مغلوبة، إلى نفس مختارة حرة، فالإنسان إذا قدر ان يمتنع عما هو مباح له «كالطعام الحلال، ومواقعة الزوجة» فهو على منع النفس عن «الطعام الحرام، والمواقعة الحرم) اقدر.
ومن هنا يمكننا ان نفسر الكثير من روايات أهل البيت(عليهم السلام) التي تنكر ان تكون الغاية من الصوم هي الامتناع عن الطعام أو الشراب، وإنما جعل ذلك حجاباً لما دونهما من المحرمات.
فعن أبي عبد الله(ع): «ان الصيام ليس من الطعام والشراب وحده، ان مريم(عليها السلام) قالت: «إني نذرت للرحمن صوما» (مريم / 26) أي صمتاً، فاحفظوا ألسنتكم، وغضوا أبصاركم، ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا، فان الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب»
وقال (ع) أيضا: «ليس الصيام من الطعام والشراب ان لا يأكل الإنسان ولا يشرب فقط، ولكن إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك وبطنك وفرجك، وأحفظ يدك وفرجك، وأكثر السكوت إلا من خير، وأرفق بخادمك.
وعن أمير المؤمنين (ع): «كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا العناء، حبذا نوم الاكياس، وإفطارهم»
والحاصل: صيام شهر رمضان دورة تدريبية يحاول من خلالها الصائم ان يسيطر على جماح نفسه ويخضعها للإرادة الإلهية، ويحاول ان يصير في هذه الفترة أنسانا كاملا، ويجرب الاستقامة التامة من جميع الجهات ولهذا ورد: «لا تجعل يوم صومك كيوم إفطارك»
لذلك ففي موضوع الصوم وسائر العبادات والاعمال الخاصة بهذا الشهر ( شهر رمضان المبارك ) ميزة خاصة لرسول الله وأهل بيته (صلوات الله عليهم) ،فانهم قد رسموا لنا الطريق الواضح لكيفية استقابل شهر رمضان المبارك و كيفية الابتعاد عن ما يخل في صحة الصيام في هذا الشهر العظيم ، من حيث اصبح ترك الأمور التي تخل في صحة الصيام من الامور العجيبة التي ترتقي بها البشرية من حيث سمو الأخلاق و تقوية العوامل النفسية لدى كل فرد من الصبر و التحمل و مراقبة النفس عن الوقوع او الزلل بالمفطرات ، و نستطيع ان نعد هذا الشهر من أعظم الدورات التثقيفية للإنسان ، فهو يجعل في كل شخص طاقة تمنعه قدر المستطاع عن التقرب الى ملذات الدنيا _المحللة_ في نهار شهر واحد من اشهر السنة مما يقوي طاقاته التحملية في جهاد نفسه لابعادها عن مساوئ الدنيا ،لان الصيام ليس فقط الإمتناع عن الأكل و الشرب بل أكثر عموما من ذلك ،ففي رواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) – لامرأة صائمة تسب جارية لها، فدعاها النبي (صلى الله عليه وآله) لطعام فامتنعت لكونها صائمة –(فقال(ص)): كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك ؟ ! إن الصوم ليس من الطعام والشراب، وإنما جعل الله ذلك حجابا عن سواهما من الفواحش من الفعل والقول يفطر الصائم، ما أقل الصوام وأكثر الجواع .
و عن فاطمة الزهراء (عليها السلام): ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه.
ولذلك فان رسول الله وأهل بيته(صلوات الله عليهم) يعطون الاهمية الكبيرة للصيام بصورة عامة و الاهمية الاكبر لصيام شهر رمضان المبارك بصورة خاصة ،فذكر في كثير من الاحاديث التي تؤكد على الاستعداد لهذا الشهر العظيم فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) – كان من دعائه إذا دخل شهر رمضان -: وأعنا على صيامه بكف الجوارح عن معاصيك، واستعمالها فيه بما يرضيك، حتى لا نصغي بأسماعنا إلى لغو ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو، وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور، ولا نخطو بأقدامنا إلى محجور، وحتى لا تعي بطوننا الا ما أحللت، ولا تنطق ألسنتنا إلا بما مثلت، ولا نتكلف الا ما يدني من ثوابك، ولا نتعاطى الا الذي يقي من عقابك .
و عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) – لجابر بن عبد الله -: يا جابر ! هذا شهر رمضان من صام نهاره وقام وردا من ليله وعف بطنه وفرجه وكف لسانه خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر، فقال جابر: يا رسول الله ما أحسن هذا الحديث ! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا جابر ! وما أشد هذه الشروط ! .
فلا ينبغي للمسلم أن يترك هكذا فرصة و ما أعظمها من فرصة ،فعلينا اغتنامها في كل الأوقات في حرِّها و بردها و كلما كانت صعوبة فيه كان الثواب أكثر كما يقال أن الاجر على قدر المشقة ،فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): الصوم في الحر جهاد .
و عن الإمام الصادق (عليه السلام): أفضل الجهاد الصوم في الحر.
و عنه (عليه السلام): من صام لله عز وجل يوما في شدة الحر فأصابه ظمأ، وكل الله به ألف ملك يمسحون وجهه ويبشرونه، حتى إذا أفطر قال الله عز وجل: ما أطيب ريحك وروحك، ملائكتي اشهدوا أني قد غفرت له.
* المقالات المنشورة بأسماء أصحابها تعبر عن وجهة نظرهم ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع
صلاح الاركوازي