بين احترام الاديان وحرية التعبير تتراوح السجالات في الدول الغربية بحثا عن طرق للتعاطي مع ظواهر الاحتكاك المجتمعي والسياسي والامني الناجم عن التعرض للاديان والمقدسات خصوصا الاسلامية منها.
ففيما يصر المسلمون، ومعهم قطاع كبير من اتباع الديانات الاخرى، خصوصا المسيحية، على ضرورة احترام الاديان السماوية وحماية مقدساتها، يتذرع الغربيون بمقولة ‘حرية التعبير’ وان اي اجراء لمنع ذلك بشكل صارخ يتناقض مع هذه الحرية، وان ذلك مناقض للمبادىء الاساسية لحقوق الانسان التي تقوم عليها تلك المجتمعات. وعلى الجانب الاسلامي ثمة ما يشبه الاجماع على ضرورة منع تكرار ما يحدث بين الحين والآخر في الدول الغربية من استهداف للمقدسات الاسلامية على وجه الخصوص، ولكن ثمة اختلافا على اساليب ردود الفعل عندما يحدث ذلك الاستهداف. ولا شك ان قتل السفير الامريكي وثلاثة من موظفيه بسفارة الولايات المتحدة في بنغازي قد اضفى على السجال اهمية كبيرة، ووضع الاطراف جميعا امام تحديات اخلاقية وفكرية ودينية، ليس من السهولة بمكان حسمها بهذا الاتجاه ام ذاك. فردود فعل المجموعات الدينية، خصوصا ذات الطابع السلفي تجنح نحو العنف للرد في مثل هذه الحالات،ولكن نظرا لما يمثله ذلك العنف من احراج للسلطات السياسية والحكومات ‘الاسلامية’ التي نشأت كثمرة لثورات الربيع العربي، فان السجال داخل الدائرة الاسلامية لا يقل اهمية عما يدور بينها وبين ‘الغرب’ الذي ما يزال يصر على ان الاساءة للمقدسات الدينية تقع ضمن دائرة حق التعبير الذي يجب ان يصان باي ثمن. وبرغم ضغط الجهات الاسلامية خصوصا منظمة التعاون الاسلامي (التي كانت تعرف سابقا بمنظمة المؤتمر الاسلامي) بهدف استصدار قانون دولي يحمي الاديان ويمنع ازدراءها، فسيستمر التوتر في العلاقات وعلى صعيد الافكار بين الشرق المسلم والغرب الذي يفضل بان يعرف بـ ‘الليبرالي’. ويتوقع ان يستمر هذا التوتر خصوصا مع استمرار استهداف الاسلام ممثلا بشخصية رسوله الكريم، وتكشف السياقات التاريخية منذ ان اصدر سلمان رشدي كتابه الاستفزازي ‘آيات الشيطانية’ في ۱۹۸۹ ان مثل هذه الحوادث تتبعها اجراءات وسياسات تعمق الشكوك لدى المسلمين بوجود ‘مخططات’ لاستهداف الاسلام، وان ما يحدث ليس اجتهادات شخصية من كاتب او مؤلف او مخرج سينمائي او رسام كاريكاتوري. فما هي القصة؟ وما الذي تنطوي عليه من ابعاد قد تساعد على استشراف طبيعة العلاقات المستقبلية بين العالمين الاسلامي والغربي؟ وهل حقا ان ‘حرية التعبير’ مطلقة ومصونة بالشكل الذي يسعى الغربيون للترويج له؟ لاستيعاب ما تنطوي عليه تلك التساؤلات يمكن عرض بعض الحقائق المرتبطة بالسياقات التاريخية والفكرية والثقافية التي يؤسس عليها كل’فريق لدعاواه، ويتخندق بها للتشبث بموقعه وسياساته، بطرح عدد من هذه الحقائق: ألاولى: ان هناك مرجعية سماوية لدى المسلمين يعتقدون بقداستها وتحريم المساس بها، وان التعدي عليها يمثل استهدافا للوجود الديني اساسا ولهوية الامة جمعاء، الثانية: ان حالة الاحتراب الداخلي التي تثار بين الحين والآخر في اوساط المسلمين تفاقم ردود فعل المجموعات والافراد عندما يستهدف الاسلام او رموزه خصوصا نبيه الكريم. ويلاحظ ان قضية الفيلم الاخير المسيء لرسول الله لم تنتشر على نطاق واسع الا بعد الهجوم الارهابي على سفارة الولايات المتحدة في ليبيا وقتل اربعة من مسؤوليها بمن فيهم السفير كريستوفر ستيفنز. ثالثا: ان تجارب الماضي في مثل هذه الحالات تكشف ان ردود الفعل كانت محدودة في بعدها العنفي، فحتى في حالة كتاب رشدي لم يحدث استهداف عنيف للمصالح البريطانية برغم الفتوى التي اصدرها الامام الخميني بجواز قتل رشدي لارتداده وتهجمه على الرسول. بينما توسع الرد هذه المرة، وادى الى قتل مسؤولين امريكيين كبار، ولولا اتخاذ السلطات الامريكية اجراءات امنية اضافية لربما توسعت دائرة قتلاهم في اليمن ومصر وباكستان. ويمكن تفسير ذلك بان توسع دائرة العنف الداخلي في المجتمعات الاسلامية في العقدين اللذين اعقبا الحرب الامريكية ضد العراق نتيجة أزمة اجتياح الكويت سهل مهمة الاستهداف الدموي لمصالح الغرب ومسؤوليه. الحقيقة الرابعة ان غياب ردرو الفعل الرسمية العربية والاسلامية بالمستوى الذي يتناغم مع توقعات المجموعات الدينية يدفع هذه المجموعات للمبادرة لاتخاذ اجراءاتها الخاصة، بما في ذلك ممارسة العنف، وان كان ذلك نادرا. وقد شجب الكثير من الجهات السياسية والدينية الهجوم على السفارة الامريكية في بنغازي، ولكن ذلك لن يمنع تكرره مستقبلا خصوصا مع استمرار السياسات الامريكية السلبية تجاه العالم الاسلامي والداعمة للاحتلال الاسرائيلي، ولانظمة الاستبداد. وتخطىء واشنطن في سياستها الحالية المؤسسة على دعم الانظمة القائمة بدعوى انها تمثل الاستقرار وان استبدالها يؤدي الى الفوضى والعنف. فبعد عقود من الاستبداد والحكم الشمولي ليس متوقعا الوصول الى حالة من الاستقرار الديمقراطية فورا، بل يحتاج التحول الى فترة زمنية تصل الى بضع سنوات. وثمة سياقات فكرية وسياسية أخرى يمكن طرحها هنا لتفنيد الموقف الغربي الذي يتشبث بحرية التعبير لتبرير استمرار التعدي على مقدسات الآخرين. فالمشرع الغربي قادر على ايجاد المخارج لكل ما يريد ضمن اطر تفكيره ومنهجه الثقافي والايديولوجي. ولتوضيح ذلك يمكن ايراد بعض الوقائع. اولها ان الغرب أصدر قوانين تجرم التشكيك في مقولة الهولوكوست، ادت الى محاكمة الكاتب البريطاني، ديفيد ايرفينغ في النمسا وادانته بالتشكيك في الهولوكوست، وصدر بحقه حكم بالسجن ثلاثة اعوام. وهنا تصل حرية التعبير الى نهايتها، فلا يجوز ممارسة النقد او التشكيك في الوقائع التاريخية او المناقشات الفكرية والفلسفية حول ذلك العنوان الذي تبلور بعد الحرب العالمية الثانية. هذا مع عدم وجود ضرورة للتشكيك في الهولوكوست خصوصا من جانب العرب والمسلمين، فليسوا هم المتهمين بارتكاب المجازر ضد اليهود، بل ان اوروبا هي التي ارتكبت المجازر. وتتضاعف الظلامة عندما يطلب من العرب دفع فاتورة الهولوكوست، اي المحرقة التي ذهب ضحيتها من اليهود عدد كبير تقدره المصادر اليهودية بحوالي ستة ملايين انسان. اوروبا اذن هي المذنبة بحق اليهود، وليس العرب والمسلمون لذلك فمن غير المنطقي مطالبة الامتين العربية والاسلامية بدفع فواتير الظلم الذي وقع على اليهود من جانب الاوروبيين. يضاف الى ذلك ان التاريخ الاسلامي يؤكد ان اليهود تمتعوا بحياة آمنة طوال الحكم الاسلامي. وحتى عندما سقطت الاندلس بايدي المسيحيين قبيل نهاية القرن الخامس عشر، قرر اليهود مغادرتها مع المسلمين لان ذلك اكثر أمنا لهم. ثانيها: طرح مقولة ‘معاداة السامية’ بشكل يقترب من التجريم. وتجدر الاشارة الى ان العرب واليهود ينحدرون من سلالة سام بن نوح، برغم الفهم الشائع بان اليهود وحدهم هم الساميون. فالتعدي على العرب واستهدافهم يعتبر معاداة للسامية ولكنه لا يحظى باهتمام من احد ولا يجرم من يستهدف العرب ولا يعتبر معاديا للسامية. وتقتضي العدالة ان يعامل العرب واليهود بانهم ساميون جميعا، وتنطبق عليهم جميعا القوانين التي تحكم معاداة السامية. والحقيقة المرة هنا ان الغرب فرض على العرب دفع فاتورة الهولوكوست، وسلم ارض فلسطين لهم رأفة بهم بعد المجازر التي مارسها بحقهم. فأين العدالة هنا؟ وكيف يبرر منطقيا توطين اليهود مكان الفلسطينيين في وطنهم؟ ان ذلك جريمة اخلاقية كبرى لا يكتفي الغربيون برفض مسؤوليتهم عنها فحسب، بل يصرون على الاستمرار في فرضها على العرب والمسلمين، بذرائع شتى واعذار بدون حدود. لا شك ان حرية التعبير قيمة تستحق الرعاية والحماية، ولا يجوز التفريط فيها. كما لا يجوز مصادرة حق الانسان في التعبير عما يعتقده في اي من مجالات حياته. هذه قاعدة لا يجوز تجاهلها. ولكن القاعدة الاخرى محكومة بقواعد وضوابط مختلفة، فلا يجوز ان تكون هذه الحرية على حساب حقوق الآخرين وحرياتهم. بمعنى ان الحرية يجب ان لا تتجاوز اطر السلم الاجتماعي او تؤدي الى توتر بين مكونات المجتمع، او تشعل ثقاب الاختلاف والتناحر. ولا شك ان استهداف عقائد الآخرين يخرج عن حدود الحرية التي يجب ان تنظم وفق ما يعتقده ابناء المجتمع. ولذلك شرعت قوانين تمنع اثارة ما ينتهك السلام الاجتماعي او يؤدي الى التناحر العرقي. ويمنع كذلك ان ينطق الانسان بالفاظ تنطوي على ابعاد عنصرية او افكار شوفينية. كل ذلك من اجل الوئام الاجتماعي، وتجاوز الخلافات التي تؤدي الى حروب طاحنة بين مكونات المجتمع. الغربيون نجحوا في اقامة منظومة سياسية تحفظ للجميع قدرا كبيرا من حقوقهم الفكرية والدينية، ولا تحرم الفئات غير المنتمية من هذه الفائدة. فلا شك ان تحديد الحريات الشخصية بحدود حقوق الآخرين، يمثل ضمانة لصون حقوق الجميع. والقانون غير المعلن الذي تلتزم به المجتمعات يتأسس على ان الحرية الشخصية’تنتهي قبل ان تصطدم بحريات الآخرين. فمثلا لا تسمح المجتمعات الغربية للافراد ان يسيروا في الشوارع عراة، وان كانت تسمح لهم بالتعري في بعض الاماكن بدعوى ان ذلك ‘اختيار شخصي مكفول’. فهل يستطيع الشخص التذرع بحقه في الحرية عندما تعتقله الشرطة عاريا في الشارع؟ وهل يسمح لشخص ما ان يشتم الآخرين بذريعة حرية التعبير؟ فهناك قوانين القذف التي تمنع التعدي على الآخرين بالقول والاتهام او الشتم. وهناك الذوق العام الذي لا يسمح باللغة الهابطة علنا، لان ذلك مخالف للذوق العام. فكل حرية محدودة بامور اهمها في المفهوم العام ان لا تصادر حقوق الآخرين وحرياتهم. وبالتالي فالتشبث بمقولة حرية التعبير ذريعة لا يقرها واقع المجتمعات الغربية. وفي بريطانيا مثلا لا يحق احتقار الملكة او ازدراؤها او النيل منها علنا. وفي المانيا وسويسرا وبولندا يمنع احتقار زعماء الدول الاخرى علنا. وفي ۵ يناير ۲۰۰۵ حكم على السيد جيرزي اوربان، صاحب صحيفة ‘الماركسي’ بغرامة تبلغ ۵۰۰۰ يورو بسبب تهجمه على البابا بول يوحنا الثاني باعتباره رئيس دولة. وفي العام نفسه اعتقل نشطاء حقوقيون من قبل السلطات البولندية بسبب تهجمهم على الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. وثمة مصاديق اخرى لعدم السماح بحرية التعبير بشكل مطلق. ففي بداية هذا العام منعت الحكومة البريطانية قناة ‘بريس تي في’، من البث على قمر ‘سكاي’ بذرائع شتى، ولكن حقيقة الامر ان ذلك جزء من الصراع البريطاني الايراني. ايا كان الامر فان القرار بوقف بث القناة التي تمولها ايران والتي تبث برامجها باللغة الانجليزية يعتبر مصادرة لحرية التعبير، ايا كانت الاسباب. ويقول الايرانيون ان وقف البث كان بسبب المحتوى السياسي والفكري للقناة. كما ان الاستوديو الرئيسي لقنوات ايرانية عديدة يواجه منذ اسابيع صعوبات في البث بسبب ضغوط بريطانية مرتبطة بالعلاقات المتدهورة مع ايران. الامر المؤكد ان غالبية المسلمين لا يوافقون على نهج التعامل العنيف مع مخالفيهم في الرأي والموقف. كما انهم لا يطالبون العالم باكثر مما لديه من امكانات وتشريعات. وقد طرحت منظمة التعاون الاسلامي والازهر وعدد آخر من الجهات الدينية والمنظمات الاسلامية اقتراحا باصدار قانون دولي يجرم ازدراء الاديان، كما هو الحال مع ما يسمى ‘قانون التجديف’ المعمول به في بريطانيا حاليا. فليس من المعقول ان يتم استهداف مقدساتهم بشكل متواصل، ويتم التعرض بالازدراء والتهكم لاقدس شخصية لديهم، متمثلة بشخص الرسول الاكرم عليه افضل الصلاة والسلام. ولا يرون المسألة مرتبطة بحرية التعبير، بل انها تخالف مبدأ نشر الوئام الاجتماعي والسلام العالمي. هذا هو لسان حال اغلبية المسلمين، وان كانت هناك اقلية تنتهج العنف وتكفر الآخرين. فعالم اليوم لا يستقيم الا بلغة’التفاهم والحوار والاحترام المتبادل، ولا يستطيع سكان هذا الكوكب العيش في حالة احتراب متواصلة، وتباغض دائم. كما انهم لا يرون في انتقاص الآخرين او النيل من مقدساتهم ومعتقداتهم باساليب التهكم والسخرية امرا منطقيا او مقبولا. ولذلك مطلوب من العالم متمثلا بحكومات الدول الغربية التي هي الاكثر استهدافا للاسلام ومقدساته ومن المنظمات الاقليمية كالاتحاد الاوروبي وكذلك الامم المتحدة التعاطي بجدية مع ثقافة استهداف الاديان التي ترعرعت في العقدين الاخيرين لدى قطاع من الليبراليين الغربيين تحت غطاء حرية التعبير. ومن الخطر الكبير ان يتم التعاطي مع قضايا العالم الكبيرة بمصطلحات فضفاضة تفتقر للتوافق الدولي بشأنها كالارهاب مثلا والامن وغيرهما. ان من الضروي احترام حرية التعبير التي حرم منها العرب والمسلمون عقودا في ظل الاستعمار والهيمنة الغربية، ولكنهم اصبحوا ضحاياها بعد ان توسعت اطرها واصبحت بدون ضوابط او حدود. فالقيم والمبادىء والايديولوجيات والحريات جميعا محكومة باطر الوئام الاجتماعي واحترام حريات الآخرين. وليس هناك حرية مطلقة بل مقيدة ضمن الاطر المذكورة، والا تحولت الحياة الى فوضى واحتراب وتراشق واراقة دماء، وهذا ما لا يريده المسلمون ولا يستقيم مع هدف دعم قيام عالم هادىء مستقر يسوده الوئام وتتناغم حريات افراده ضمن اطر الاحترام المتبادل وعدم التعدي على حريات الآخرين وحقوقهم ومقدساتهم.