عندما يتعلق الأمر باليهود واليهودية، فآلاف الأبحاث وملايين الصفحات تعجز عن الإحاطة بتفاصيل القضايا الرئيسة والفرعية، المتصلة بالطائفة الدينية الأكثر إثارة للجدل، وللمواقف المتطرفة – أقصى اليمين وأقصى اليسار – في التاريخ.
فيما نملك من مساحة محدودة، سنعقد مقارنة سريعة بين وضع اليهود في الحضارة الغربية، ووضعهم في الحضارة الإسلامية، من منظور قضية الاضطهاد اليهودي المزمن خاصة في العصور الوسطى وأوائل الحديثة. خلال تلك المقارنة السريعة، سنعرف يقينًا من المضطهد الحقيقي لتلك الطائفة على مر التاريخ.
اليهود.. أمة الشتات الأعظم
تعود أصول الغالبية العظمى من اليهود إلى بني إسرائيل الذين تواجدوا في منطقة الشرق الأوسط قرونًا عديدة قبل ميلاد المسيح، خاصة في فلسطين والشام ومصر. بعد قرونٍ من عبور بني إسرائيل البحر مع النبي موسى هربًا من مصر، وفي أوج المجد اليهودي القديم، كان لليهود مملكة قوية موحدة في فلسطين وأجزاء كبيرة من الشام، لكن ما لبثت تلك المملكة أن انقسمت إلى مملكة إسرائيل شمالًا، ومملكة يهوذا جنوبًا.
تعرض الوجود اليهودي لخطر داهم على يد الغزو الآشوري في القرن الثامن قبل الميلاد، وما صحبه من قتل وسبي الكثير من اليهود، وتمزيق المملكة اليهودية الشمالية، وبداية تشتت اليهود في أرجاء الأرض. في القرن السادس قبل الميلاد، كان موعد مملكة يهوذا مع الغزو البابلي المدمر، وما تبعه من مراحل سبي اليهود، وفيما عرف بالسبي البابلي بعد عشرات السنين، سيأمر الملك الفارسي قورش بالسماح لليهود بالعودة إلى فلسطين.
في القرن الرابع قبل الميلاد، هزم الإسكندر الأكبر الفرس، وأصبحت فلسطين جزءًا من إمبراطوريته، والتي رغم تفككها بعد موته، فإن الوجود اليهودي ظلَّ تحت الهيمنة اليونانية، وما تخلَّلها من بعض أنواع الاضطهاد الثقافي؛ مثل إجبار اليهود على ترجمة التوراة لليونانية، ومنع الشعائر اليهودية مثل: السبت والختان وغيرها، في بعض العصور؛ مما أدى إلى اندلاع عدة انتفاضات يهودية، أسفرت عما يشبه الحكم الذاتي لليهود في فلسطين. شهدت الحقبة اليونانية هجرة يهودية معتبرة إلى الأسكندرية التي كانت عاصمة حكومة البطالمة اليونانية في مصر.
مقطع مختصر عن تاريخ اليهود
في العهد الروماني، كانت النهاية لآخر أشكال الاستقلالية اليهودية في فلسطين. عام 67 من الميلاد، غزت الجيوش الرومانية فلسطين بزعامة القائد الروماني فيسباسيان لفرض الحكم الروماني المطلق هناك. تمَّ سحق كل مقاومة لليهود، لتسقط القدس عام 70م. ويتم حصار آخر معاقل الاستقلال اليهودي في فلسطين، قلعة ماسادا الحصينة قرب البحر الميت. يستمر الحصار لأكثر من عامين، ينجح بعدها الرومان عام 73م في اقتحام الماسادا، ليجدوا أكثر من ألف يهودي هم حاميتها وقد قتلوا أنفسهم بدلًا من الأسر.
منذ عام 73م، وحتى إعلان قيام دولة إسرائيل في أرض فلسطين عام 1948م، يبدأ الشتات العظيم لليهود؛ إذ تفرَّقوا جالياتٍ في أصقاع الأرض، خاضعين لنفوذ غيرهم من دول ودويلات الشرق والغرب. تبقَّت أعداد من اليهود في أرض فلسطين، خاضعين للإذلال الروماني طوال قرون ستة قبل الفتح الإسلامي، لا سيَّما بعد تحوِّل الرومان إلى المسيحية منذ أوائل القرن الرابع.
كذلك سبَّب دعم اليهود للاحتلال الفارسي القصير لفلسطين أوائل القرن السابع الميلادي موجة خاصة من الاضطهاد الروماني. في العصور الإسلامية تمتَّع اليهود بتسامح نسبي على كافة المستويات، تحت حكم مختلف الدول الإسلامية، إلا أن الموت القادم من الغرب أتاهم بعد قرون في فلسطين، عندما استولت الحملة الصليبية الأولى على القدس عام 1099م، ايرتكب الصليبيون مذابح مروعة ضد المسلمين واليهود من سكان القدس، التي بلغت الدماء فيها «حد الركب» بتعبير أحد القادة الصليبيين. وعمومًا، كان اليهود عرضة لاضطهاد الصليبيين في كل مكان وصلت إليه جيوشهم، ومن وراء ذلك كان الاتهام العتيد لهم بأنهم قتلة المسيح.
تاريخ اليهود في الغرب.. أم تاريخ معاداة اليهود؟
إذا أردنا تلخيص تاريخ اليهود في الغرب، خاصة أوروبا، باستثناء النصف الثاني من القرن العشرين، في كلمة واحدة، فستكون هذه الكلمة هي: العداء ضد اليهود، أو المصطلح المثير للجدل: «معاداة السامية»، والذي استخدمه للمرة الأولى أحد الصحافيين الألمان عام ١٨٧٨م للتعبير عن الاضطهاد المزمن الذي تعرض له اليهود في أوروبا. لا يعنينا هنا مناقشة هذا المصطلح، ولا الاستثمار الانتهازي له من قبل الحركة الصهيونية، واللوبيات اليهودية القوية حول العالم، إنما نتعامل معه باعتباره مصطلحًا اتفقت عليه معظم الأدبيات الغربية في حديثها عن اضطهاد اليهود.
شهدنا كيف كان الغرب الوثني ممثلًا في المد اليوناني ثم الروماني قاسيًا مع الأمة اليهودية، فلم يتركها إلا وقد سقطت في شتاتها الأعظم، وتقطَّعت أشتاتًا بين الأمم. عندما بدأ تحوَّل الغرب إلى المسيحية ابتداءً من القرن الرابع الميلادي، في حقبة الإمبراطور الروماني قسطنطين، انتقل اضطهاد اليهود، من الزاوية السياسية والثقافية، إلى الزاوية الدينية بشكل أكبر، مع استمرار كافة الزوايا في إذكاء لهيبه، والذي كان يمر بنوباتٍ من المد والجزر، لكنه لم ينخمدْ أبدًا، وكان قابلًا للاندلاع بشراسة في أية لحظة.
مع تمدد المسيحية، وتغلغل نفوذ الكنيسة أكثر فأكثر في أوروبا في القرون التالية، تصاعدت عزلة اليهود، واضطهادهم في مختلف أرجاء أوروبا المسيحية، لتصل إلى الذروة في العصور الوسطى، وما شهدته من المد الصليبي، وحملاته الدموية المتتابعة إلى الشرق.
غالبًا ما كان اليهود يتجمعون في المدن الأوروبية في أحيائهم الخاصة، والتي كانت تعرف بـ«االجيتو»، حيث يعيشون في عزلة شبه تامة عن المجتمع المسيحي المتحفز ضدهم في غالب الأحيان، محرومين من الأهلية السياسية، وحرية التعبد، وإقامة طقوسهم. كثيرًا ما كان يفرض على اليهود ارتداء زي تمييزي محدد، ويتم إبعادهم عن الوظائف العامة الهامة، وتولي المناصب الحيوية. ولأوهى الأسباب، كانت تندلع موجات من المذابح والتهجير ضد اليهود، الذين حظوْا بكراهية شعبية مركبة بسبب ثراء الكثيرين منهم نتيجة الإقراض بالربا الذي كان متفشيًا بين اليهود، كما حدث في مذابح عام 1190م في إنجلترا، والتي سقط فيها العديد من الأثرياء والإقطاعيين اليهود.
أمام موجات الاضطهاد المسيحي المتعصب، لجأ اليهود في أحيانٍ كثر للهجرة إلى البلاد الإسلامية خاصة الأندلس، أو ليعيشوا في كنف بعض الدول المسيحية التي تتبنى نهج التسامح، كما حدث في مملكة بولندا بالعصور الوسطى، والتي لاذ بها عشرات الآلاف من اليهود، لتزدهر مجتمعاتهم فيها حتى العصر الحديث، حيثُ بلغت أعدادهم في بولندا قبل الحرب العالمية الثانية حوالي 3 مليون يهودي، لم تترك المحرقة النازية منهم إلا أقل من ربع المليون بعد الحرب.
من أبرز وقائع الاضطهاد غير المبرر ضد اليهود في أوروبا، سلاسل المذابح التي تزامنت مع الطاعون الأسود الذي ضرب أوروبا أواسط القرن الرابع عشر الميلادي، وفتك بحوالي نصف سكان أوروبا، وما تلاه من سنين. آنذاك، كان انتشار الطاعون أقل حدة في مناطق اليهود، لعل السبب في ذلك عائدٌ إلى العزلة، حيث كانت قوافل السفر والتجارة من أهم طرق تمدد الوباء، أو انتشار بعض العادات الصحية مثل غسل الأيدي، والاستحمام الدوري، وغير ذلك، بين اليهود.
نتيجة ما سبق، وفي أجواء التعصب الجنوني ضد اليهود في أوروبا المسيحية في تلك الفترة، ومع حالة الذعر والاضطراب التي صاحبت الطاعون المدمر، لم يكن مستغربًا أن يتهم اليهود بالمسئولية عن الطاعون، وأن يشيع المتعصبون المسيحيون أن الطاعون عقاب من الله على التهاون في تنصير اليهود، ليحصد وباء الاضطهاد آلافًا مؤلفة من أرواح اليهود، أكثر مما جنت يد الطاعون. بحلول أواخر القرن الرابع عشر، بعد عقود من الطاعون، كان الوجود اليهودي قد اضمحلّ في مناطق غرب أوروبا الرئيسة مثل إنجلترا وفرنسا وألمانيا.
في روسيا، كان هناك وجود يهودي معتبر، خاصة في القرنيْن الثامن والتاسع عشر الميلادي، لكنه كان دائمًا فريسة لنوبات عديدة من التعصب والمذابح. عام 1881م، اندلعت موجة عاتية من استهداف اليهود بعد اغتيال القيصر الروسي ألكسندر الثاني. وفي عام 1884م، اندلعت موجات أخرى من الاضطهاد، وأعمال العنف ضد اليهود، في بيلاروسيا وليتوانيا، ومناطق أخرى من الامبراطورية الروسية.
عام 1903م، قتل 50 يهوديًا في أعمال شغب أعقبت مقتل طفليْن، أثيرت شائعات عن أن قاتلهما من اليهود. كذلك شهدت سنوات ما بعد الثورة البلشفية في روسيا وقوع عدة مذابح بحق اليهود، خاصة من قبل المعادين للثورة، والذين اتهموا اليهود بدعم الثوار البلاشفة. ساهمت تلك الموجات المتتابعة من الاضطهاد، في إذكاء الهجرات اليهودية الكثيفة من مناطق الاتحاد السوفيتي إلى فلسطين قبل وبعد قيام دولة إسرائيل.
الاضطهاد النازي الذي جَبّ ما سبقه
برغم التحسن التدريجي الذي شهدته العصور الحديثة في قضية اضطهاد اليهود، مع ضعف نفوذ الكنيسة، واتجاه الأمم الأوروبية شيئًا فشيئُا للعلمانية، وللأفكار والتطبيقات التي تضمن حقوق الأفراد جميعًا على حد سواء على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والدينية والعرقية، فإن القرن العشرين شهد أبشع تجليات الاضطهاد ضد اليهود على مدار التاريخ، على يد النازيين، خاصة إبان الحرب العالمية الثانية
برغم تشكيك الكثيرين في رقم 6 مليون يهودي من ضحايا الهولوكوست النازي، فإن الوقائع المقطوع بحدوثها تثبت أن اليهود تعرضوا على يد النازيين لاضطهاد ومذابح ممنهجة، سقط فيها مئات الآلاف منهم على مدار سنوات الحرب. جدير بالذكر أن عدد القتلى من اليهود السوفييت فقط على يد النازيين تجاوز النصف مليون.
وبدأت أحداث الاضطهاد الكبرى قبل بداية الحرب. فمثلا في يوميْ التاسع والعاشر من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1938، والتي تعرف تاريخيًا بـ«ليلة الزجاج المهشم»، ونتيجة لفترات طويلة من تحريض النازيين بعد سنواتٍ من هيمنتهم على الحكم في ألمانيا، ضد اليهود، اندلعت أعمال شغب واسعة، تخللها طوفان من السلب والنهب والتخريب لأكثر من 250 معبد يهودي، وآلاف المؤسسات والمنازل التابعة لليهود بطول البلاد، واعتقل بعدها أكثر من 30 ألف يهودي وتم إرسالهم إلى معسكرات الاحتجاز.
أثناء الحرب العالمية التي ستندلع بعد أقل من عام من تلك الأحداث، سيصبح تجميع اليهود، وإرسالهم إلى معسكرات الاحتجاز المقامة بالأساس في بولندا المحتلة، التي كانت تضم أكبر نسبة من اليهود في مناطق الاحتلال الألماني، تصرفًا دوريًا للدولة الألمانية؛ التي كانت تتخوف من خيانات اليهود، وتريد استغلالهم في المهام الشاقة لخدمة الآلة العسكرية الألمانية. ومن لم يمُت ببطء في الظروف المأساوية المعيشية، كانت تتولى أمرَه مذابح قتل جماعي من حين لآخر.
وفي أواخر الحرب عام 1944-1945، مات أكثر من ربع مليون يهودي وغيرهم من المتواجدين في معسكرات الاحتجاز التي كان الألمان يقومون بإخلائها – مع اقتراب الجيش السوفيتي – في ظروفٍ بالغة القسوة، سيرًا على الأقدام لمسافاتٍ طويلة دون طعامٍ أو شراب، لعجزهم عن إحكام سيطرتهم مع الهزائم النازية المتتالية.
اليهود تحت الهيمنة الإسلامية
أما في الحضارة الإسلامية، وعلى جانبي البحر المتوسط، فقد كان هناك سياقات أخرى للمسألة اليهودية. عمومًا كان التسامح هو القاعدة في كافة المناطق الإسلامية تجاه الكتابيين من اليهود والمسيحيين على حد سواء. كانت أغلب وقائع الاضطهاد التي تعرَّض لها اليهود ذات خلفية سياسية أكثر منها دينية، وكانت وقائع متفرقة ومؤقتة.
ربما لم يشهد أي عصر إسلامي، في أية بقعة من السيادة الإسلامية شرقًا وغربًا «استئصالًا عرقيًا» لليهود، إنما كان أقصى ما يتعرضون له بشكل ممنهج هو الإلزام بزي موحد، والمنع من تولي المناصب الكبرى، أو المبالغة في تقدير الجزية والضرائب كما حدث في بعض عصور المماليك في مصر والشام، وعصور المرابطين والموحدين في الأندلس والمغرب.
ولأن تتبع تواريخ الطوائف اليهودية في كافة البلدان والأزمان الإسلامية يحتاج إلى مساحات هائلة لا نمتلكها هنا، فسنبرز ثلاثًا منها، تعبر بتقلباتها عن المصائر اليهودية تحت الهيمنة الإسلامية.
المدينة المنورة.. بداية خارج الزمن ونهاية مروعة
يرد في «سيرة ابن هشام» والذي يعد من أقدم مصادر السيرة النبوية قطوف من نصوص عهد المدينة بين المسلمين واليهود بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام وفيها: «وَإِنَّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنَّ لَهُ النَّصْرَ وَالْأُسْوَةَ، غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرِينَ عَلَيْهِمْ.. وَإِنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ، وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ، مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ، إلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ.. وَإِنَّ بَيْنَهُمْ النَّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَإِنَّ بَيْنَهُمْ النُّصْحَ وَالنَّصِيحَةَ، وَالْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَأْثَمْ امْرُؤٌ بِحَلِيفِهِ، وَإِنَّ النَّصْرَ لِلْمَظْلُومِ، وَإِنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ».
بعد هجرة النبي محمد إلى المدينة المنورة، كان بها عدة قبائل من اليهود استوطنوها منذ عشرات السنين. بعد إتمام النبي الخطوة الأولى في ضمان لُحمة المجتمع الإسلامي، بعقد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، أبرم مع يهود المدينة المنورة ما عرف تاريخيا بـ«عهد المدينة»، وتضمنت أهم بنوده عقد السلام مع اليهود، وأنهم أمة مع المؤمنين.
في السنوات التالية، لم يحفظ يهود المدينة العهود، وحدثت مناوشات بينهم وبين المسلمين، كان وازعها الرئيسي تبرم اليهود من المد الإسلامي المتصاعد بعد انتصارات المسلمين في أولى حروبهم الكبرى في الجزيرة، وهي معركة بدر ضد كفار قريش، العدو الأول والأبرز للإسلام. أدى اعتداء بعض يهود بني قينقاع على المسلمين في سوق قينقاع إلى حصار قصير انتهى بإجلاء يهود بني قينقاع من المدينة أواخر العام الهجري الثاني. ثم لحقهم في مصير النفي بنو النضير في العام الرابع بعد محاولة فاشلة منهم لاغتيال النبي محمد، عندما تجرأوا على المسلمين بعد هزيمة أحد المفاجئة أواخر العام الثالث من الهجرة.
أَمَا وَاَللَّهِ مَا لُمْتُ نَفْسِي فِي عَدَاوَتِكَ، وَلَكِنَّهُ مَنْ يَخْذُلُ اللَّهَ يُخْذَلْ.. أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَمْرِ اللَّهِ، كِتَابٌ وَقَدَرٌ وَمَلْحَمَةٌ كَتَبَهَا اللَّهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ. *حيي بن أخطب، من سادات اليهود، مخاطبًا النبي محمد، أثناء سوقه أسيرًا إلى الذبح في مقتلة بني قريظة في العام الخامس من الهجرة.
أما القبيلة اليهودية الكبيرة الثالثة، بنو قريظة، فكان لها قصة أخرى؛ عندما حاصرت جيوش الأحزاب المدينة أواخر العام الخامس، خان بنو قريظة عهد المدينة مع النبي محمد، والذي كان يتضمن واجب الدفاع المشترك ضد العدو. وإذ بغواية حيي بن أخطب وهو من أبرز قادة بني النضير الذين تم إخراجهم من المدينة، وكان من أبرز المؤلبين لحشد الأحزاب ضد المسلمين، انضم بنو قريظة للأحزاب، وكادوا يسمحون لجيوشهم باقتحام المدينة من الجنوب، وهو الجهة التي من المفترض أن حمايتها كانت على عاتق حصون بني قريظة، لكن نجح المسلمين في آخر لحظة في إيقاع مكيدة بين الأحزاب وبني قريظة عطلت تنفيذ المخطط الكارثي.
بعد رحيل الأحزاب مدحورين، حاصر المسلمون حصون بني قريظة، والذين نزلوا راغمين على حكم حليفهم قبل الإسلام سعد بن معاذ، والذي حكم -وأقره النبي محمد- بقتل رجالهم، وأسر النساء والأطفال، جزاءً للخيانة، وراح ضحية هذا الحكم أكثر من 600 من بني قريظة. أوائل العام السابع الهجري؛ سيغزو المسلمون مدينة خيبر والتي كانت أكبر معاقل اليهود في الجزيرة العربية، ولجأ لها الكثير من المنفيين من المدينة، وسيتم إخضاعها للسيطرة الإسلامية.
الأندلس.. عصر ذهبي ووزارة وتجارة وبعض الاضطهاد
عندما فتح المسلمون الأندلس أواخر القرن الأول الهجري، أظهروا تسامحًا دينيًا لم يكن معهودًا في تلك العصور، خاصة مع أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين، حده الأدنى حرية التعبد، وعصمة الدم والمال. ازدهرت جاليات يهودية في المدن الأندلسية الكبرى خاصة قرطبة، وغرناطة، وعمل الكثير من أبنائها في التجارة الداخلية والخارجية، والطب وغيرها من المهن التي تكفل دخلًا ومكانة اجتماعية جيدة، حتى قدَّرت بعض المصادر الغربية وصول نسبة اليهود إلى حوالي 5% من مجمل سكان الأندلس في العصور الوسطى، مما حدا ببعض المؤرخين لتسمية قرون الوجود الإسلامي في إسبانيا بـ«العصر الذهبي لليهود» بإسبانيا.
لم تستمرْ الصورة بتلك النصاعة طوال الوقت، إذ لم تخلُ فترات التاريخ الأندلسي من بعض المناوشات والأحداث الطائفية، ولعل أبرزها وأكثرها فظاعة كانت الواقعة المعروفة باسم «مذبحة غرناطة» والتي اندلعت عام 459هـ، أواسط عصر التدهور والانقسام المعروف بعصر ملوك الطوائف.
كان ملك غرناطة باديس بن حبوس يعتمد على اليهود في إدارة مفاصل مملكته، خاصة شؤونها المالية، فازدهرت أوضاع اليهود عمومًا في زمنه. برز من هؤلاء الوزير ابن نغرالة، والذي أظهر الكثير من الحكمة والسياسة في مساعدة باديس في الحكم، وأجاد كذلك إظهار التواضع للنخب المسلمة في غرناطة والتي أثار حفيظتها الغيرة السياسية المغلقة بالدين، والحظوة التي نالها اليهود لدى حاكم غرناطة، فمرّت أيامه بسلام.
اعترافًا بفضله بعد وفاته، أقرّ باديس ابن الوزير اليهودي مكان أبيه، إلا أن الابن لم يكن بنفس كياسة الأب، فأثار غضب الكثير من القيادات المسلمة في غرناطة، باستبداده بالكثير من صلاحيات الحكم مستغلًا كبر سن باديس، كذلك ثارت حوله الشبهات في الوفاة المفاجئة لابن الملك باديس، والذي لم يكن على وفاق مع ابن نغرالة. اشتدَّ طغيان الوزير، وبطانته من اليهود، وزاد حنق عامة الغرناطيين وخاصتهم، وأخذ بعض الفقهاء في إذكاء الحماسة الدينية ضد اليهود الذين في رأيهم تجبَّروا ضد المسلمين في أرض الإسلام، فاندلعت الثورة فجأة في غرناطة ضد اليهود، وراح ضحيتها ابن نغرالة، ومئات من خاصة اليهود وعامتهم.
أما في قرون المد المغربي في الأندلس خاصة عهدي المرابطين والموحدين، والذين كانوا يشتهرون بالتزمت الفكري والديني حتى ضد مخالفيهم من الفرق الإسلامية، فقد خضع اليهود لبعض الإجراءات التمييزية في اللباس، وفرضت عليهم بعض المغارم الباهظة، وتم التضييق على حرية التعبد، لكن ظل لليهود وجودهم في الأندلس، رغم تفضيل جماعات منهم للفرار منها.
عندما بدأت الأندلس تتساقط قطعة قطعة، ووقعت الحواضر الأندلسية الواحدة تلو الأخرى في قبضة إسبانيا الكاثوليكية المتعصبة، تعرض اليهود كما المسلمين للاضطهاد والقهر الديني، خاصة في عهد الملكيْن الكاثوليكييْن الشهيريْن إيزابيلا وفرناندو، واللذان نجحا في الاستيلاء على غرناطة آخر المعاقل الإسلامية بالأندلس أواخر القرن التاسع الهجري، وأصدرا بعدها مرسومًا ملكيًا شهيرًا يوم 31 مارس (آذار) 1492م، يقضي بطرد اليهود من إسبانيا بعد مهلة قصيرة، ليلجأ عشرات الآلاف من اليهود لبيع ممتلكاتهم بأبخس الأثمان، ويصبحون على أعتاب شتاتٍ جديد.
الدولة العثمانية ملاذًا اليهود
رغم السمعة القاسية التي اكتسبتها الدولة العثمانية لتاريخها الحربي الصارم خاصةً في أوروبا، وما أثاره الأوروبيون قديمًا وحديثًا عن اضطهاد الدولة العثمانية للأقليات، فإن تسامحها مع اليهود الفارين من التعصب الكاثوليكي، خاصةً في إسبانيا بعد سقوط الأندلس، يمثل صفحة بيضاء بارزة في تاريخها.
عمومًا أظهر العثمانيون تسامحًا كبيرًا تجاه اليهود، ولذا رحَّب اليهود من رعايا الدولتيْن البيزنطية المسيحية، والمملوكية المسلمة، باستيلاء المارد الأحمر عليهما خلال القرنيْن 15 و16 من الميلاد، ورأوا في الهيمنة العثمانية نوعًا من الخلاص من صنوف الاضطهاد. لذا لم يكن مفاجئًا أن فتحت الدولة العثمانية ذراعيْها لاستقبال عشرات الآلاف من اللاجئين اليهود الفارين من إسبانيا والبرتغال، ليصبح الوجود اليهودي في أراضي الدولة العثمانية هو الأضخم في العالم، ويصبح لليهود جاليات بارزة في بعض الحواضر العثمانية الهامة مثل العاصمة إسطنبول، ومدينة سالونيك اليونانية، ليزدهر الوجود اليهودي ماديًا وثقافيًا في كنف العثمانيين، خاصة في قرون المد العثماني السادس والسابع عشر الميلادييْن.
النهایة