هناك اعتراض على الإسلام من ناحية اعترافه بقانون (الرقية) – استعباد إنسان لمثله – الأمر الذي يتنافى والمعهود من روح ” العدالة ” الإسلامية التي تتحكم في جميع قوانينه وأحكامه وانتظاماته:
(لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)
(البشر كلهم سواسية)
(لا فضل لعربي على عجمي)
(ولا لعجمي على عربي)
(ولا لأبيض على أسود)
(ولا لأسود على أبيض)
حديثا مشهورا عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فالناس كلهم من ولد آدم أخوة سواء.
وقال الله عز وجل: ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم “. ” ولقد كرمنا بني آدم “.
كانت جيوش المسلمين تتجه إلى أكناف العالم صارخة بالدعوة إلى الحرية والعدالة والعلم لتحرر الشعوب من نير الاستعباد، ومن ضغط الظلم. وظلمة الجهالة.
كانت الأمم ترحب بهذه الدعوة الإنسانية، وتجد آمالها متحققة في ظل الإسلام العادل فتدخل في دين الله أفواجا أفواجا من غير إكراه، أو عنف (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).
هكذا عرف الإسلام نفسه. وهكذا عرفته الأمم فأقبلت تعتنقه عن طوع ورغبة. الإسلام دين ينبذ العنصرية ويحاربها حربا شعواء لا هوادة فيها.
إن القوميات تنصهر في بوتقة الدين الإسلامي لتكوين أمة واحدة تبتني وحدتها على أساس العقيدة والإيمان بالله. فكلمة التوحيد هي الأساس لتوحيد الكلمة. نعم إن الشعوبية جاءت من قبل اليهود، إنهم شعوبيون وأتحفوا العالم بالشعوبية.
كما أن القومية العنصرية جاءت من قبل (بني أمية) دخلاء الإسلام والإسلام منهم براء. فأطاحت بهيكل الإسلام وشوهت سمعته البريئة. فيا لسخافة الرأي من قبول شريعة الدخلاء، ورفض شريعة الكرماء.
وكلمتنا الأخيرة: الإسلام برئ من الشعوبية والعنصرية إنما هو دين العقيدة والإيمان.
(كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة).
هذا هو الإسلام. وهذه روحه. وتلك دعوته. هكذا عرفه الله وعرفتها الشعوب حقيقة واقعية لا مرية فيها:
إذن فما سبب اعترافه بقانون الاستعباد البشري الذي يتناقض مع قانون العدل والإنصاف ويستبشعه العقل الحكيم؟!
والجواب
أولا بصورة إجمالية:
إن الإسلام لم يعترف بقانون الاستعباد البشري إطلاقا – على ما كان المتداول عند الأمم المتمدنة آنذاك… تدلنا على ذلك مراجعة عابرة للتاريخ القديم واستجواب فلسفة الاستعباد البشري حينذاك:
– كانت الرومان تعتقد – فلسفيا-: أن العنصر الأبيض غير العنصر الأسود جنسا ودما وخلقة. فالدم الذي يجري في عروق الإنسان الأبيض يختلف عن الذي يجري في عروق الأسود كما أنهما خلقا من أصلين متباينين.
وقد خلق الأسود لكي يخدم الأبيض. فوجوده لوجوده، على غرار سائر الحيوانات والنباتات والأحجار.
فالإنسان الكريم هو الأبيض. أما الأسود فهو مخلوق لخدمة الأبيض، فهو عبد له في أصل خلقته، وللإنسان الأبيض أن يستغل الإنسان الأسود أينما وجده أو عثر عليه، فهو ملك له وهو مالكه وفق القانون.
تلك كانت نظرة الأمم المتمدنة – أمثال الرومان والفرس واليونان وغيرهم – إلى الجنس الأسود إطلاقا. لذلك كان النخاسون يغيرون على المناطق الأفريقية لصيد الإنسان الأسود زرافات، يحملونهم في السفن ويأتون بهم إلى الأسواق فيبيعونهم كما تباع الأغنام والمواشي، بل وبصورة أفجع…!
وكانت الموالي تعامل العبيد معاملة سيئة، يستغلون منافعهم ومواردهم ويفرضون عليهم الأتاوات الثقيلة، ويكلفونهم ما لا يطيقون، أو يعبثون بأرواحهم غاية التفريح وترويح النفس، كأداة صامتة يعمل صاحبها بها ما شاء…!
… جاء الإسلام – والعالم منهمك في مهاوي الغي والفساد – جاء ليجعل حدا لتلك المظالم، ونهاية للعيث والفساد، وليوقظ العقل البشري الذي أخذه السبات العميق منذ فترة سحيقة، ولينير درب الحياة من جديد ” فتنتهي الأمم عن غيها وجهلها، وتهتدى إلى سبل الصلاح والسلام والعلم والعدل والإنصاف:
سبيل الإنسانية الفاضلة…!
فأخذ الإسلام في مبارزة الأفكار قبل مبارزة الأشخاص فالحرب الفكرية أصعب ولكنها أمتن وأبلغ إلى الهدف، وإنما تقع الحرب والقتال تمهيدا للأولى ولرفع حواجز سدت دون بلوغ الدعوة: ” صرخة العدالة ” إلى الأمم.
ومما أخذه الإسلام تدبيرا لمبارزة قانون الاستعباد البشري أن حارب فلسفته الدارجة، فقال: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى – أي كلكم من أب واحد ومن أم واحدة، وكلكم أخوة وبنو أب واحد. – وجعلناكم شعوبا وقبائل – مختلفة في العادات، وفق اختلاف الأصقاع والبيئات – لتعارفوا ليتعرف بعضكم إلى بعض، ويسعى كل أمة في ترفيع مستواها على أختها، وبذلك. يتدرج الإنسان على مدارج المدنية الراقية إلى غيرها من آيات.
وأعلن الرسول الأعظم: لا فضل لأبيضكم على أسودكم، كما لا فضل لعربي على عجمي. والبشر سواسية من ولد أب واحد وأم واحدة.. إلى غيرها من مضامين متحدة الهدف مأثورة عن النبي والأئمة عليهم السلام.
هكذا حارب الإسلام فكرة الاستعباد فلسفيا. وهي مبارزة جذرية، تقطع أصول الاستعباد، وتذهب بفروعها هباء. وبذلك ألغى قانون ” الرقية ” الذي كان يعترف به العالم المتمدن إلى حد ذاك. نعم استثنى واحدة من موارد الاستعباد التي كانت دارجة حينذاك، وهذا مما لا بد منه في قانون الاجتماع العام، وبصالح العبيد أنفسهم، وهذا ما نروم تفصيله في هذا المجال: –
ثانيا –
الإسلام اعترف بقانون الاستعباد في مجال واحد فقط، لا ثاني له وأن حكمته لترجع إلى مصلحة العبيد أنفسهم وذلك: إذا قامت الحرب بين الفئة الكافرة والمسلمين، فشحن الكفر جيوشه لمحاربة الإسلام ومنابذته بكل قواه، وهنا يغلب المسلمون جيوش الكفار ويطاردونهم ويقبضون على عدد من الأسرى.
والمعاملة المتصورة مع هؤلاء الأسرى إحدى ثلاث لا رابع لها:
1. تخلية سبيلهم، ليرجعوا إلى ما كانوا فيه من منابذة الإسلام من جديد.
2. قتلهم جميعا، ليرتاح العالم من شر وجودهم المانع عن نشر العدالة الإنسانية.
3. إبقاءهم تحت تربية المسلمين في معاملة حسنة محدودة شرعيا، لا يتجاوزونها، معاملة عادلة يحددها الإسلام وفق روحه العادلة الرحيمة لعلهم يهتدون إلى معالم الإنسانية وينقلبون إفرادا صالحين بعد ما كانوا فاسدين.
فيستفيد منهم الاجتماع الإنساني كعضو صالح فعال، بعد ما كان المجتمع البشري يخشى غيهم وفسادهم وإفسادهم.
تلك طرق ثلاث لا بد من اختيار أحدها بشأن الأسرى الذين جاؤوا منابذين للعدالة، فأطاح بهم القدر في أيدي دعاة العدالة: المسلمين.
أما اختيار الطريق الأول فهو نقض للغرض. وكر على ما فر منه. حيث محارب الإسلام، يملك روحا خبيثة، دعته إلى منابذة داعي العدالة وسحق حامل مشعل الإنسانية، فلا يستحق هكذا إنسان أن يكون مبسوط اليد يفعل ما يشاء من غي وعيث وفساد، ويعمل في ضد مصلحة الإنسان وفي مناقضة الصالح العام…! كلا.. إنه طريق لا يستحسنه العقل الحكيم ولا يحبذه سلوك العقلاء مع الأبد.
فيبقى الاختيار بين الطريقين الآخرين: القتل أو الاستعباد.
ولا شك أن الثاني أرجح في نظر العقل، لأن الوجود مهما كان فهو أولى من العدم، ولا سيما إذا كان واقعا في طريق الإصلاح.
فإن وجود هذا الكافر المنابذ للإسلام وإن كان فاسدا ومضرا بالعدالة الإنسانية، لكنه حينئذ مقيد بتربية إسلامية، فلا يمكنه التخلف عن تعاليم الإسلام من بعد ذلك فهو منصاع لا محالة لما يتلقاه أو يدور حوله من أوضاع صحيحة، إذ يلامس حقيقة الإسلام وحقيقة العدالة وواقع الإنسانية الفاضلة فيرغب إليها عن طيب نفس ويستسلم للدين طوع رغبته.
هكذا يعمل الإسلام مع الأسرى، أي يفتح لهم مدرسة تربوية فيقلب بهم من ذوات خبيثة إلى ذوات طيبة. ومن فرد طالح ضار إلى فرد صالح نافع. انقلابا في الماهية.
لا ما كانت تفعله الأمم مع أسراها بالقتل الجماعي أو إهلاكهم تحت قيد الجوع والعطش.ولاتزال تعمل الأمم الغالبة مع المساكين: الأمم المغلوبة، ومع أسراها أبشع معاملة سيئة، بحجة أنها لا تطيق تحمل مؤنتها فتهلكهم زرافات. كما شاهدنا ذلك في الحرب العالمية الثانية.
فما أروع وأجمل معاملة الإسلام مع أسراه، إنها تسمى ” استعباد الأسرى ” ولكنها في الواقع تربية النفوس الشريرة، وجعل العضو الفاسد عضوا صالحا. فما أحسنه من معاملة طيبة يرتضيها العقل ويقر عليها العقلاء، عبر العصور..؟!
والخلاصة: إن قانون الاستعباد الذي يقره الإسلام قانون عقلاني وفي صالح العبيد أنفسهم، كما هو في صالح الإنسانية الكبرى هذا فحسب.
ثالثا:
إن الإسلام – بروحه العادلة وعلى وفق قانون الإنصاف – لم يرتض إبقاء هؤلاء العبيد تحت نير العبودية، ولو كان قد ضيق مجال الاستعباد، بشكل تقل الرقية العالمية بنسبة تسعين بالمأة لكنه مع ذلك جعل وسائل تحرير العبيد بطرق شتى كثيرة، منها قهرية وأخرى اختيارية: اختيار الموالي أو اختيار العبيد. ولذلك كله تجد النظام الاجتماعي الإسلامي (الفقه الإسلامي) العريض قد فتح بابا خاصا للتحرير (كتاب العتق)، أما الرقية فلا يوجد له كتاب خاص في الفقه الإسلامي اللهم إلا أسطر في كتاب الجهاد.
وإليك الإشارة إلى بعض القوانين التي سنها الإسلام في سبيل تحرير العبيد: – قانون (عتق الصدقة) قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداءه من النار.
قانون (عتق الكفارة): كفارة الظهار. كفارة الإيلاء كفارة الإفطار، كفارة خلف النذر، أو العهد، أو اليمين، كفارة الجزع المحرم في المصاب، كفارة ضرب العبد، كفارة القتل.
قانون (الخدمة): إذا خدم العبد المؤمن مولاه سبع سنين فهو حر.
قانون (الإقعاد، والعمى والجذام): إنها أسباب قهرية لانعتاق الرقيق.
قانون (الاستيلاد).
قانون (التدبير).
قانون (الكتابة) المشروطة والمطلقة.
قانون (السراية) أي سراية العتق إلى بقية أجزاء العبد لو عتق منه بعضه.
قانون (تملك الذكر أحد العمودين أو المحارم من النساء).
قانون (تملك الأنثى أحد العمودين).
قانون (إسلام المملوك قبل إسلام مولاه).
قانون (تبعية أشرف الأبوين).
قانون (التنكيل).
تلك قوانين سنها الإسلام بصدد تحرير العبيد وهي كثيرة سوف ندرسها في هذا الكتاب.
هذا فضلا عن القوانين التي سنها الإسلام لشراء العبيد وإعتاقهم كما في باب الزكاة يشترى بمال الزكاة ما أمكن من الأرقاء ويعتقون.
وفي باب الميراث إذا مات أحد ولا وارث له سوى مملوك للغير يشترى منه ليرث. وأمثال ذلك أيضا كثيرة…
المصدر: الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، الشهيد الثاني، الجزء : 6 صفحة : 221