كان صائدو العبيد في القرن السابع عشر يتخيرون إحدى القرى الأفريقية، يدخلونها مع بزوغ الصبح قبل أن ينهض رجالها إلى عملهم، فيأسرونهم ويقيدونهم بالسلاسل ويدمغونهم بالأختام لتمييزهم باسم المالك الجديد؛ رجل أوروبي أبيض، ثم ينقلونهم إلى سفن تحمل أعدادًا ضخمة منهم، كانت السياط تلهب جلودهم لإجبارهم على الالتصاق ببعضهم كي تتسع السفينة للمزيد منهم، قبل أن تبحر بهم في قلب المحيط الشاسع الذي لم يره أحد منهم من قبل.
وفي الطريق الطويل إلى الأرض الجديدة – الأمريكتين مرورًا بأوروبا – كان من يقاوم منهم أو يصيبه المرض يُلقى في البحر لتأكله الحيتان، لا وقت ولا مساحة لتحمّل المرضى، والوفيات حتى لو بلغت ثلث العدد المحمول على السفينة – وهو ما كان يتكرر كثيرًا – فلا يزال الربح كبيرًا جدًا بحيث لا تكون هناك قيمة لحياة أولئك الذين أُلقي بهم في البحر. فقد كان الربح يصل إلى ألف% في الرحلة الواحدة.
الأسود الأعلى سعرًا
تبدّت أشكال العنصرية في أوروبا في ناحيتين: عنصرية البيض ضد السود باعتبارهم «أقل ذكاء». والعنصرية المعروفة باسم «مناهضة السامية» والتي أصبحت تعني في أوروبا مناهضة اليهود، كان للعنصرية ضد السود جذورها في أوروبا التي تعود للعصور الوسطى، وكانت تتخذ شكل الاستعباد قبل الاستعمار، حتى أن مصطلح «السود» يشير في بريطانيا إلى الأقليات غير الأوروبية من الكاريبي أو آسيا، أو أفريقيا، أو حتى ذوي الأصول العربية؛ إذ عاشت في المستوى نفسه، وعانت من القدر ذاته من الاستغلال والعنصرية .
كانت العبودية إحدى المؤسسات الرئيسة التي حكمت الحياة الاجتماعية والاقتصادية في أوروبا منذ عهد الرومان، وامتدت مع اكتشاف العالم الجديد لتكون أداة للغزو، فاستخدمها الاستعمار بطريقة مشابهة لتلك التي حدثت في مستعمرات القرون الوسطى في القرن الرابع عشر حين كان الإيطاليون يأسرون العبيد لإرسالهم إلى مزارع قصب السكر في جزيرة قبرص.
كان أول العبيد الذين وطئوا الأراضي الجديدة للعمل في خدمة الغزاة من العبيد السود الذين عاشوا في إسبانيا والبرتغال، وكان الملكان الكاثوليكيان قد أصدر مرسومًا بمنع المسلمين واليهود والمسيحيين الجدد من الذهاب إلى الأراضي الجديدة، وهكذا كانت هناك حاجة ماسة لأيادٍ عاملة من السود لاستخراج الكنوز الضخمة التي ذخرت بها أمريكا.
وهكذا حوّل الأوروبيون تجارة العبيد التي بدأها الرومان، ثم العرب في القرن السابع إلى تجارة واسعة بين القرن السادس عشر والتاسع عشر، واتخذت شكلًا مختلفًا لم يعد نظامًا اجتماعيًا يقوم به الأفراد كما كان عند العرب، فقد اتخذ منه الأوروبيون نظامًا اقتصاديًا اعتمدوا فيه على الشركات والمراكز التجارية، وحتى بناء القواعد العسكرية، واقتلعوا في تلك الفترة 12 مليون أفريقي أسود من خليج غينيا لبيعهم في أمريكا.
قاوم العبيد السود الظروف الصعبة أكثر من السكان الأصليين لأمريكا، ولهذا كان السادة يفضلونهم في العمل، وكانوا يهربون الرجال السود ويفضلونهم على النساء اللاتي يحتملن أقل مما يحتمله الرجل من العمل الشاق. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر لم تكن هناك سلعة أكثر ربحًا من الرقيق، لم يلحق بأرباحها المرتفعة تجارة الذهب، ولا العاج، ولا التوابل، فشهدت منافسة حامية بين التجار والشركات الأوروبية.
كان العبيد السود في ذلك الوقت هم «العاج الأسود» الذي يصحب الغزاة البيض ليقوموا بأي عمل مهما كانت مشقته، كان السود أكثر تميزًا وأعلى سعرًا من الهنود الحمر؛ كانوا أعظم قوة وأقوى بنية وأكثر تحملًا للحرارة وأكثر مقاومة للأمراض، وإن لم يسلموا منها فقد أودت بالفعل بحياة كثيرين منهم قبل وصولهم إلى الأراضي الجديدة. في إحدى الفترات وبينما كان الهندي يُباع بخمسة دولارات كان سعر العبد الأسود يصل إلى 75 دولارًا.
لأسباب أمنية فقط – وليست إنسانية – صدر قانون يحظر على الرجل أن يمتلك أكثر من ثلاثة عبيد، لكن الواقع وقلة عدد السكان والحاجة إلى الكثير من العمل فرض نفسه، وكان الرجل الواحد يمتلك ما يقرب من 15 من العبيد السود.
العمل حتى الموت
راح العبيد السود يعملون في ظروف غير صحية بالغة القسوة في مزارع قصب السكر والمناجم ورعاية الثروة الحيوانية، كانوا يعملون 14 ساعةً، وأحيانًا 19 ساعة، دون أي قانون يمنع عملهم حتى الموت، كان من النادر رؤية عبد عجوز، الأفضل والأكثر ربحًا للمالك أن يعمل العبد حتى الموت، من أن يعيش حتى سن الشيخوخة.
كان العبيد ممنوعين من تعلم القراءة والكتابة ومن الابتعاد عن المزرعة التي يعملون فيها دون إذن السيد، ومن الشهادة ضد أي رجل أبيض،
كما يقول المؤرخ البريطاني بازيل ديفيدسون: «أضحت النخاسة على يد الأوروبيين تجارة أشبه ما تكون بالموت الأسود (الطاعون) الذي اجتاح أوروبا فقضى على ما يقرب من ثلث أهلها، بل أسوأ؛ لأن النتائج الاجتماعية كانت أقسى من الموت، فالوباء الذي تعرض له الأوروبيون انقضت معه آثاره، ولكن القهر الذي تعرض له الأفارقة والذل الذي عاشوه لم تكن آثارهما لتنقضي، لم يجتح الموت الأسود أوروبا إلا عددًا من السنين بينما استمرت تجارة الرقيق تحصد السكان حصدًا وتهدد معنويات من بقى منهم على القارة أكثر من أربعة قرون». وأكد المؤرخ أن أوروبا نجحت في أن توهم الأفارقة أنهم يحملون وزر العبودية، وأنهم آثمون أيضًا.
برعاية الكنيسة.. وبمشاركتها أحيانًا
في ذلك الوقت بذل المسيحيون الأوروبيون قصارى جهدهم لتبرير العنصرية وتجارة الرقيق والفصل العنصري من الكتاب المقدس، لاحقًا اعتبر مؤرخون أنه كان أمرًا لا يصدق أن يبرر إنسان رغبته في السلطة والاستغلال والنهب باسم الله والدين والعرق، وهكذا برروا الفظائع التي ارتكبوها.
لم تكن الكنيسة بعيدة عن تجارة الرقيق ففي عام 1442 أعلن البابا يوجيسيتياس الرابع رعايته لحملات خطف الرقيق التي يقوم بها هنري الملاح في أفريقيا، وكان للكنيسة نصيبها من الأسلاب، وكان كل ما تطلبه هو تعميد المأسورين إلى أمريكا لإنقاذ أرواحهم، وتشترط أحيانًا أن يكون على ظهر السفينة التي تحملهم قسًا، ينال نصيبًا من ربح التجارة عن كل عبد، وكان ارتفاع الربح قد دفع أحد الأساقفة إلى إرسال سفينة لحسابه في إحدى الحملات.
وعلى أساس مبدأ الخضوع شرّعت الكنيسة هذه التجارة ولم تتدخل في العلاقة بين المالك والعبد سوى بطلب الطاعة من العبد دون النظر إلى ما يطوله من ظلم، كما يقول القديس بطرس «أيها العبيد أطيعوا سادتكم بخوف ورغبة كعبيد المسيح المترفين الضعفاء أيضًا» لقد جرى إقناعهم أن طاعة السيد إنما هي طاعة للرب.
في بعض المستعمرات كان هنا من يعتقد أن تعميد الأسود واعتناقه المسيحية يعني أنه سيصبح حرًا، لكن نهم الملاك البيض إلى الثورة كان أكبر من ذلك، فلم يعبأوا بمعتقدات العبد السود لديهم، وطالبوهم بالعمل الشاق الذي لا ينتهي، وبحسب المؤرخين ظلت الرغبة في تعليمهم المسيحية حجة يتشدقون بها فقد لتبرير استعبادهم.
لعنة السود.. جرح الكتاب المقدس
استغل الأوروبيون بعض آيات الإنجيل لدعم حججهم في إثبات تفوق العرق الأبيض، وتبرير تجارة العبيد والاستعمار؛ تقول الآيات 9 :27 «وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك سامًا وحامًا ويافث. وحام هو أبو كنعان، هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح، ومن هؤلاء تشعبت كل الأرض، وابتدأ نوح يكون فلاحًا وغرس كرمًا، وشرب من الخمر فسكر، وتعرى داخل خبائه، فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجًا، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما، ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير، فقال ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته، وقال مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدًا لهم، ليفتح الله ليافث؛ فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبدًا لهم»
وهكذا فإن أحفاد سام (الساميين) هم الذين يسكنون الشرق الأوسط وآسيا. وأحفاد يافث هم الذين يسكنون أوروبا، أما أحفاد حام وابنه كنعان فهم السود الذين يسكنون أفريقيا وهم الشعب الملعون بحسب التفسير الذي ساد، لذا كان الكاهن والفيلسوف البرتغالي أنطونيو فييرا يرى في تجارة الرقيق امتثالًا لما ورد في الكتاب المقدس، وكان فيه ما يُضفي شرعية على معاناة الرجل الأسود و«لعنة» عرقه.
مثّلت تفاسير الكتاب المقدس جرحًا للسود إذن إذ لم تكن على الحياد في الفترة الاستعمارية، وطالما استُدعي ليكون شاهدًا من الرب إلى جانب الملك، والسيد والأسقف والغني، كان جرحًا قاتلاً للحرية والكرامة والهوية، في عيون الرجل الأسود كان الكتاب المقدس هو القيد الذي يُبقيه في «الجحيم الحلو» كما أُطلق على مطاحن السكر. فكان الوجه الذي أضفى شرعية على عمليات النهب والاستعباد التي قام بها الرجل المسيحي الأبيض في الأراضي الجديدة، كان في يده دائمًا ليثبت إنه الشعب المختار وصاحب الأرض التي منحها له الرب.
إسبانيا في دور مزدوج
لعبت إسبانيا دورًا مزودجًا في مأساة الرق فهي «سحقت الهنود في مستعمراتها في جزر الكاريبي والأمريكتين ودمرت حضارتهم، واستجلبت أرقّاء أفريقيا ليؤدوا ما عجز عن القيام به الهنود الحمر من عمل في الزراعة والمناجم» وظل استنزاف الرجال والشباب قرونًا فسلب أفريقيا مستقبلها أيضًا.
ولم يكن المبرر يختلف كثيرًا عما أكده الأب غريغوريو فارثيا في القرن السابع عشر في تبريره لما يفعله الأوروبيون بالهنود؛ إنهم ينحدرون من سلالة يهودية؛ لأنهم كما قال «كسالى مثل اليهود، لا يؤمنون بمعجزات يسوع المسيح»، لقد أضفت الكنيسة مبكرًا جدًا طابع القداسة على غزو الأراضي الجديدة ورأت فيها «توسيعًا لمملكة الرب»، وباركت تجارة العبيد من السكان الأصليين،
لقد استدعى الأمر من البابا بولس الثالث أن يصدر مرسومًا عام 1537 يعلن أن الهنود «بشر حقيقيون» قوبل مع ذلك برفض الكثير من اللاهوتيين والمفكرين، وكان الفيلسوف والمفكر خوان غينيس دي سيبولفيدا يرى أن الهنود يستحقون المعاملة التي ينالونها «لأن خطاياهم ووثنيتهم تمثل إهانة للرب». لكن كان قدر الأفارقة السود أن يكونوا أكثر نفعًا للسيد الأبيض، فاستعبد أهل القارة السمراء لأربعة قرون وأهدر طاقاتها وملكاتها الإبداعية وأفسد نسيج المجتمع هناك.
إيثار جمال