في عام 2016، انطلقت في الصين أشغال بناء مدينة ألعاب ضخمة على أرض مدينة «ينتشوان» التي تُعدّ مركز منطقة «نينغشيا» ذاتية الحكم، التي يعيش بها مسلمو الهُوي، ذوو الأصول الصينية. وتأتي خطّة الصين لبناء «مدينة المسلمين العالمية» كما أسمتها أو «ديزنيلاند الإسلامية» كما تلقّب في سياق انتقادات لاذعة من الأمم المتّحدة ومنظّمات حقوق الإنسان بسبب الانتهاكات القاسية التي تُمارسها الصين ضد سكّان إقليم تركستان الشرقية (شينجيانغ) الذي يقطنه مسلمو الأويغور، ذوو الأصول التركية، فقد أصبح اسم الإقليم يرتبط في أذهان الكثير بانتهاكات بكين الخطيرة ضد تلك الأقلية المسلمة.
وفي المحصلة تأتي المدينة ضمن وسائل الصين لتحسين صورتها العالمية خاصة في دول العالم العربي والإسلامي، حيث تُعنى باستخدام القوّة الناعمة لتحقيق مصالح عدّة في الدول العربية.
مِنح دراسية ومسابقات لتعلّم العربيّة.. هل تكفي لرسم صورة مغايِرة؟
وقف فتي في التاسعة من عمره يرتدي قميصًا للنجم المصري محمد صلاح، أمام لجنة تحكيم مسابقة المواهب باللغة العربية التي يعرضها تلفزيون الصين، وقال إنّ اسمه ماوي جيون، واسمه العربي هو «خالد»، يتقن أربع لغات من بينها اللغة العربية، وحين سُأل الطفل ذو العينين الضيقتين: لماذا تدرُس اللغة العربية؟ أجاب بكل ثقة: «أدرس العربية لأني مسلم»، وتلك الجملة تحديدًا أبهرت ملايين المسلمين والعرب الذين شاهدوا المقطع المصور وتناقلوه عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
هؤلاء أيضًا أصبحوا يتابعون بشغف مسابقة المواهب باللغة العربية التي يبثها تلفزيون الصين المركزي منذ العام 2016، وتستهدف المسابقة الطلاب الصينيين الدارسين للغة العربية في الجامعات الصينية، وتهتم الصين بهذه المسابقة بشكل كبير، إذ تُخصّص فريقًا من المُعدّين ليشرحوا جميع المراحل للمسابقة، لإزالة قلقهم وتشجيعهم على المشاركة، كما يُجري المعدّون دورات ترويجية في جامعة اللغات والثقافة، وجامعة الاقتصاد والتجارة الدولية، وجامعة الدراسات الدولية ببكين.
في المحصّلة، يهدف هذا البرنامج كما تقول الصين لدفع تعليم اللغة العربية، وهو أحد أسلحة الصين الناعمة لتغيير صورتها المشوّهة والضبابية في الشارع العربي وعند المنظّمات الحقوقيّة مع تفاقم اضطهادها لحقوق المسلمين الصينيين، إذ إن الدول العربية والإسلاميّة تبقى سوقًا مهمّة ومنطقة استراتيجيّة في خطط الصين السياسية والاقتصاديّة، ولذلك تحاول استخدام قوتها الناعمة لتحسين علاقتها مع الدول العربية، تارة عبر إقامة مشاريع تنموية وتعاونية، كأن تقدم قروضًا للتنمية الاقتصادية إلى دول عربية وأخرى عبر التعاون الثقافي.
وقد كانت واحدة من أهم ما ارتكزت عليه الصين هو إقامة مراكز أبحاث ومعاهد أكاديمية مشتركة مع دول الشرق الأوسط، كمعهد بحوث الشرق الأوسط التابع لجامعة شيه بيه، وكذلك مركز أبحاث التنمية الآسيوية والأفريقية وهي مراكز تهدف عبر تشجيع التبادل الثقافي لإعطاء صورة مغايرة عن الصين كما تريد السلطات هناك، وتسعى بكين لنقل الثقافة العربية مترجمة إلى الصينية لتعريف المواطن الصيني بالعالم العربي وثقافته، وتدعم السلطات الكتب المترجمة إلى العربية ليخفض ثمنها، وضمن اتفاقية تبادل حقوق نشر بين الصين والدول العربية؛ تصدر دور نشر صينية عشرات الكتب باللغة العربية، من مجموعة أدبية وروايات وقصص قصيرة، وكتب في الثقافة والتاريخ.
وتدرك الصين أهمية الاستثمار في المجال العلمي والتقني في العالم العربي، ويظهر هذا الاهتمام فيما أطلقت عليه مؤخرًا «أوّل ورقة سياسات عربية للحكومة الصينية»، وتؤكد هذه الورقة على أهمية تشجيع البحوث بين الجامعات في مجالات التاريخ، والثقافة، والعلوم، والتكنولوجيا، وأن الصين ستعمل على تعزيز تعليم اللغة الصينية وتدريب المعلمين في الدول العربية كأولوية، وكذلك هي تخطط لإنشاء مختبرات وطنية مشتركة، ومراكز بحوث، ومجمعات علمية متخصصة في الدول العربية، كما أنها ستعنى بالمنح الدراسية للباحثين العرب الشباب.
«صُنع في الصين».. لماذا تحرص الصين على مصالحها مع الدول العربية والاسلامية؟
تكاد لا تخلو سجّادة صلاة أو جلباب أو طاقية أو مسبحة أو حجاب رأس من عبارة «صُنع في الصين»، فالأرقام تؤكد أن حوالي 70% من المستلزمات الإسلامية صنعت في الصين التي لا توقف دراستها العلمية لأذواق المسلمين وقدراتهم الشرائية.
وفي نطاق أوسع، تعمل الصين ضمن إطار مبادرة «الحزام والطريق» التي أطلقتها عام 2013، وتسمى أيضاً «طريق الحرير» على تبادل المصالح المشتركة مع العديد من الدول العربية، إذ انضمت منذ 2014 تسعُ دول عربية إلى المبادرة التي تهدف إلى إقامة شبكة عالمية من الموانئ والطرق البرية والسكك الحديدية في عشرات الدول، وتشجع المبادرة على بناء منطقة تجارة حرة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي.
ففي منطقة الخليج، تحتلّ السعودية المرتبة الأولى في إجمالي التجارة، إذ تعدّ التجارة الثنائية الأكبر التي تتمتع بها بكين في الشرق الأوسط بأكمله، وتأتي في المرتبة الثانية الإمارات ثم إيران، وتعدّ تجارة السلاح من أهم التجارات التي تجمع بين الصين ودول الشرق الأوسط، إذ تبيع أسلحة بمئات الملايين من الدولارات إلى سوريا، واليمن، والعراق، وإيران.
وبرغم المكاسب المتعدّدة التي تحققها الصين من تجارتها في الدول الإسلامية والعربية، إلا أن بكين معنية بتركيز حضورها الاقتصادي في الشرق الأوسط للاستفادة من ثرواتها الطبيعة وعلى رأسها النفط.
الدول العربية وخصوصًا الخليجية أكبر قوة نفطية في العالم، وهي محطّ اهتمام بكين في سعيها لتعميق العلاقات الاقتصادية مع دول المنطقة، وتنظر الصين إلى دول الخليج ليس فقط من منظور قيمتها كمصدر للنفط، بل أيضًا في إطار إمكاناتها الضخمة كسوق للخدمات النفطية، ولذلك باتت الدول العربية أكبر مورد للنفط وسابع أكبر شريك تجاري وسوقًا هامة للمقاولات والاستثمارات الخارجية للصين.
وربما من المفارقة أن الحكومات العربية الرسمية ذات السجل الحقوقي السيء فيما يتعلّق بحقوق الإنسان، ليس فقط غير معنية بالصورة السيئة للصين واضطهادها لمسلمي الصين، بل إنها «تبدي تفاهمًا متماثلًا» للصين في ترتيب أولويات الاستقرار الاجتماعي على حقوق الإنسان وفق تقرير موقع «بيزنس إنسايدر» الأمريكي، كما يذهب التقرير لتأكيد أن الاعتماد الاقتصادي على الصين هو سبب أيضًا وراء عدم انتقاد الدول الإسلامية الصين بشأن الإيغور.
وينقل الموقع عن الباحث في السياسة الصينية في جامعة سيدني للتكنولوجيا، سيمون فان نيوينهويزن قوله: إن «العديد من دول الشرق الأوسط لديها سجل فقير في مجال حقوق الإنسان – بما في ذلك ما يتعلق بمعاملة الأقليات الدينية، ويظهر العديد منهم الفهم ذاته لحقوق الإنسان في الصين – أي أن الاستقرار الاجتماعي يتفوق على الحقوق الفردية. هذه هي الطريقة التي بررت الحكومة الصينية بها وجود معسكرات إعادة التثقيف وغيرها من الإجراءات القمعية».
ويضيف التقرير: «إن صمت الدول ذات الأغلبية المسلمة حول المعاملة المروعة للإيغور، وخاصة حملة التطهير الثقافي الأخيرة في تركستان الشرقية، أمر محبط وغير مفاجئ على حد سواء، إنه أمر محبط لأن مبدأ الأخوة الإسلامية أصبح أداةً سياسية خارجية انتقائية لها علاقة أكبر بالسياسة الدولية للدول الإسلامية، وأقل ارتباطًا برسالة تضامنها الحقيقية».
معسكرات اعتقال المسلمين الإيغور.. فظائع إنسانيّة بالجُملة
تمارس السلطات الصينية منذ عقود اضطهاد ضد أقلية الإيغور المسلمة في إقليم «شينجيانغ»، لكن حملتها في العقدين الأخيرين بلغت مستويات استثنائية بداعي التصدي لـ«الإرهاب» ومواجهة من تصفهم بـ«الانفصاليين» الذين تقول إنهم يتآمرون لتنفيذ هجمات ضدها.
واشتدت انتهاكات حكومة الصين ضد الإيغور أكثر في السنوات القليلة الأخيرة، ففي يوليو (تموز) 2016، فرضت بكين إجراءات جديدة، كمنع تسجيل أسماء إسلامية لمواليد الإيغور، ومنع الذهاب إلى المسجد لأداء الصلاة، كما حظرت السلطات الصينية على المسلمات ارتداء غطاء الشعر أو الوجه، وطاردت الرجال الذين يطلقون لحاهم، كما منعت الإيغور من الصيام وهدمت آلاف المساجد في الإقليم تحت ذريعة أنها «تهديد للسلامة العامة».
وتؤكد التقارير الحقوقية على أن الصين في حملتها ضد مسلمي الإيغور أجبرت سكان الإقليم على تسليم جميع نسخ القرآن وسجّادات الصلاة وغيرها من المتعلقات الدينية، ومن يخالف هذه التعاليم كان يعاقب عقوبات شديدة، حتى أن العام الماضي وحسب أرقام المنظمات الحقوقية وصلت نسبة الاعتقالات في الإقليم 21% من بين نسبة الاعتقالات الجنائية الاجمالية في الصين، رغم أن عدد سكان الإقليم لا يتجاوز 1.5% من إجمالي السكان الصين.
بيد أن أخطر ما كشف في انتهاكات الصين ضد مسلمي شينجيانغ هو قيامها باعتقال نحو مليون شخص في معسكرات سرية، وذلك لإرغام آلاف المسلمين على ترك الإسلام واعتناق أفكار الحزب الشيوعي، إذ يُجبر المسلمون في هذه المعتقلات على شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ويتعرضون لتلقين سياسي ممنهج، وفي هذه السجون يمنع الحراس الإيغور من الاتصال بعائلاتهم وأصدقائهم، وهم مراقبون لأقصى حد عبر أنظمة تكنولوجية للمراقبة الجماعية
ولم يكن إقليم شينجيانغ وحدهم من تعرض إلى الاضطهاد من مسلمي الصين، فعلى سبيل المثال منطقة نينغشيا ذاتية الحكم لقومية هوي أيضًا تمارس السلطات الصينية اضطهاد ضد المسلمين فيها، ووصل الأمر بها لمحاربة المساجد التاريخية تحت مسوغ أنها ذات طراز عربي، واشتدت قبضة السلطات على نينغشيا حتى شعر العلماء الشرعيون هناك بأن المنطقة قد تخضع قريبًا لنفس التدابير القمعية في إقليم شينجيانغ، كذلك نالت الإجراءات الصينية من مناطق أخرى في الشمال الغربي مثل قانسو وتشينغهاي، حيث تعكف الحكومة على التحذير مما تسميه بـ«اتجاه التعريب» وتفرض على المساجد أن تعكس الأسلوب الصيني وتنسجم مع الثقافة الصينية.
ميرفت عوف
النهایة