بينما كان الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي يتجول في إحدى المشافي جنوبي البلاد قبل ثمانِ سنوات، التقى طفلًا عمره أربعة أعوام، فقد ساقيه جراء غارة جوية شنتها طائرة هليكوبتر تابعة للقوات الأمريكية الخاصة في فبراير (شباط) من العام نفسه، أسفرت عن مقتل 20 مدنيًا، أخرجه كرزاي من فراشه وخرج به إلى فناء المشفى، ووفقًا لثلاثة شهود من بين الحاضرين، سأله الرئيس: «من الذي أصابك؟»، أشار الصبي وهو يبكي إلى السماء.
ليست هذه القصة الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة، الكثير من العمليات المشابهة نفذتها القوات الأمريكية منذ دخلت الأراضي الأفغانية في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2001، فبعد ستة شهور من حملات القصف الجوي التي شهدها عام 2001، كشف جوناثان ستيل من صحيفة الجارديان أن عدد القتلى في أفغانستان يتراوح ما بين 1300 إلى 8000 أفغاني قُتلوا مباشرة بسبب القصف، فيما بلغ تعداد مَن قُتلوا بشكلٍ غير مباشر 50 ألف شخص.
وفي كتابه «تعداد الجثث: قتلى كان يمكن تفاديهم على مستوى العالم منذ 1950» الصادر عام 2007، طبّق البروفيسور جدعون بوليا نفس المنهجية القائمة على معطيات الأمم المتحدة للوفيات للتوصل إلى أرقامٍ دقيقة بشأن عدد الوفيات الإضافية، وتوصل بوليا، وهو متخصص في الكيمياء البيولوجية ومتقاعد من جامعة لا تروب في ميلبورن، إلى أن عدد الوفيات الذي كان يمكن تجنبه في أفغانستان منذ عام 2001، يصل إلى ثلاثة ملايين، تقريبًا 900 ألف منهم أطفال دون سن الخامسة.
أمريكا في قفص الاتهام
بدأت القصة قبل عامين، حينما أعلنت فاتو بنسودا، المدعية العامة لدى محكمة العدل الدولية في لاهاي في تقرير لها نشرته منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) لعام 2016 عن اعتقادها بأن القوات الأمريكية من الممكن أن تكون قد ارتكبت جرائم ضد الإنسانية بين عام 2003 و 2004، تركزت الاتهامات حول أعمال تعذيب وحشية وقعت أثناء الاستجوابات بهدف نزع الاعترافات.
وقالت بنسودا في تقرير استند إلى أبحاث أولية، وهي مرحلة أولى تسبق فتح التحقيق، أن هناك قاعدة بيانات معقولة تسمح بالاعتقاد أنه خلال استجواب هؤلاء المعتقلين، لجأ عناصر من القوات المسلحة الأمريكية والسي آي إيه إلى أساليب تشكل «جرائم حرب».
واستنادا إلى العناصر التي في حوزتها، تعتقد المدعية العامة أن عناصر من القوات المسلحة الأمريكية أخضعوا ما لا يقل عن 61 معتقلًا للتعذيب والمعاملة الوحشية، والاعتداء على كرامة الإنسان على الأراضي الأفغانية، وبحسب تلك العناصر أيضًا، فإن أعضاء في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ربما قد أخضعوا 27 معتقلًا على الأقل لتلك الأساليب على الأراضي الأفغانية وعلى أراضي بلدان أخرى أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية مثل بولندا ورومانيا وليتوانيا، كما شددت المدعية على أن هذه المزاعم لا تتعلق فقط بحالات معزولة، مما يعني منهجية تلك الجرائم وشيوعها بين الجنود الأمريكيين أثناء نزع الاعترافات.
رفضت الإدارة الأمريكية بعد يوم واحد من تقرير المحكمة الجنائية الدولية على لسان إليزابيث ترودو، المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية في ذلك الوقت، ما تسوقه المحكمة الدولية، مدعيةً أن ما لديها ليس سوى مسوغات، وأن الولايات المتحدة ليست عضوًا في المحكمة، بل لديها نظام قضائي قوي بإمكانه التعامل مع مثل هذه الشكاوى.
لكن المدعية العامة مضت في طريقها وفتحت التحقيق في نفس الوقت من العام التالي (نوفمبر 2017)، ضاربةً عرض الحائط بالاعتراضات الأمريكية.
الرد الأمريكي جاء عنيفًا هذا العام، على لسان مستشار الأمن القومي للرئيس ترامب، جون بولتون، حيث حذر المحكمة من أي عقوبات قد تطال عسكريين أمريكيين أو عسكريين من دولٍ حليفة، وأمعن في الوعيد بأن الولايات المتحدة لن تتعاون مع المحكمة، التي وصفها بغير الشرعية، وأن بلاده ستعاقب قضاة المحكمة بحرمانهم من دخول الأراضي الأمريكية، ومعاقبتهم ماليًا إذا ما كانت لهم أموال ضمن النظام المالي الأمريكي، مما يعني تقويض عمل المحكمة وفرض الوصاية الأمريكية على مبادئ العدل ومؤسسات ما بعد الحرب الباردة، لعل جون بولتون يريد للطفل الذي فقد ساقيه وكان في حضرة الرئيس السابق كرزاي أن يشكو همه للسماء بعدما كان يشكيها.
الجريمة بعدسات ويكيليكس
ويكيليكس، المعنية بتسريب المعلومات السرية كوسيلة لمكافحة الفساد في الشركات الكبرى والحكومات، نشرت عام 2010 بإجمالي 91 ألف وثيقة عسكرية سرية يرجع بعضها للعام 2004، تكشف الفشل الأمريكي في العراق، وما سماه موقع المنظمة «جرائم حربٍ» ارتكبتها القوات الأمريكية على الأراضي الأفغانية.
رصدت الوثائق المسربة بعضًا من التجاوزات، قامت بها القوات الأمريكية بصورة متكررة بحق مدنيين عُزل، وأشارت صحيفة «الجارديان» التي اطلعت على نسخة من الوثائق إلى أن العديد من الوقائع والتجاوزات قامت بها قوات الجيش الأمريكي، منها قيام قوات «المارينز» (مشاة البحرية) بإطلاق النار العشوائي عقب تعرضهم للهجوم بالقرب من جلاد آباد، مما أودى بحياة 19 مواطنًا غير مسلح، بينما أُصيب نحو 50 آخرين.
أكدت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) صحة التسريبات، على لسان متحدثها الرسمي لحظتها جيوف موريل، ووعدت بفتح تحقيق للوقوف على خلفية التسريب الهائل، ومنع حدوث أية حوادث مشابهة بحق أوراق عسكرية، يُفترض أنها سرية، وقد تُعرض حياة الكثيرين للخطر، لكنها منيت بأكبر عملية تسريب معلومات عسكرية في التاريخ بُعيد الواقعة الأولى، 400 ألف وثيقة، هذه المرة عن جرائم القوات الأمريكية على الأراضي العراقية.
مبانٍ عالية اجتُثت من فوق الأرض فقط لأن قناصًا واحدًا يعتليها، في أسوأ قواعد اشتباك في العالم، وهذه قطرة من فيض ما فعلته القوات الأمريكية في العراق وسلطت ويكيليكس عليه الضوء. بالإشارة إلى أن عدد ضحايا القوات الأمريكية في العراق بين عامي 2004 و 2009 بلغ خمس أضعاف نظرائهم في أفغانستان، 109 آلاف عملية قتل موثق قامت بها القوات الأمريكية في العراق في هذه الفترة مقابل 20 ألفًا في أفغانستان.
وفي تقرير لـ«نيويورك تايمز»، مرده وثائق ويكيليكس المسربة، فإن القوات الأمريكية صباح أحد أيام الإثنين قامت بتجريف حافلة ركاب مدنية كبيرة وأمطرتها بوابل من الرصاص، في إحدى نقاط التفتيش بالقرب من مدينة قندهار مما أشعل تظاهرات كبيرة مناوئة للتجاوزات الأمريكية في المدينة.
تتكرر مثل هذه الحادثة بشكل شبه يومي في نقاط التفتيش، ذلك أن الجنود الأمريكيين، بحسب الجنرال ستانلي ماكريستال، قائد القوات الأمريكية في أفغانستان، مضطرون لاتخاذ قرارات سريعة وحاسمة في أجواء غير واضحة (يقصد نقاط التفتيش على الطرق الرئيسية)، إلا أن تبرير ماكريستال وفق خبراء عسكريين لا يختلف كثيرًا عن تبريرات السياسيين والعسكريين مرتكبي فظائع الحروب حول العالم، فإذا كانت القوات الأمريكية غير قادرة على تطوير قواعد اشتباك تقلل من خسائر المدنيين فمن يُعنى بهذا الأمر؟\
جوانتانامو أُم المآسي
تمر الأيام طويلة وكئيبة خلف القضبان، أكاد لا أشعر أن الزمن ينقضي. أوقاتي هي مزيج من ظلام وألم مستمر. أما عن التعذيب الذي كنت أتعرض له فحدث ولا حرج؛ كنت أُحرم من الطعام لفترات طويلة ثم تقدم لي فجأة كميات كبيرة من الطعام بعد طول تجويع، ويطلب مني الحراس التهام الأكل كله في ثلاث دقائق، إلا أن أحد الحراس كان يأتي ليسحب الصحن بعد 30 ثانية. *يوميات جوانتانامو – للسجين الموريتاني محمد ولد صلاحي
حصل ولد صلاحي على منحة دراسية في ألمانيا، وعمل هناك مهندسًا لعدة أعوام، ثم قطع دراسته في عام 1990 لينضم إلى وحدات قتالية في تنظيم القاعدة تحارب الشيوعية في أفغانستان. عاد إلى موريتانيا في عام 2000، وفي السنة التالية، أي في عام 2001، ألقت السلطات الموريتانية القبض عليه بناء على توجيهات صادرة عن الولايات المتحدة الأمريكية، ونقل إلى سجن في الأردن، ومن ثم نقل إلى قاعدة باغرام الجوية الأمريكية في أفغانستان وأخيرًا، انتهى به المُقام في الخامس من أغسطس (آب) عام 2002 إلى سجن غوانتانامو في كوبا حيث بدأت -أو بالأحرى- تواصلت هناك رحلة عذاباته الطويلة إلى أكتوبر (تشرين الأول) 2016.
هرّب ولد صلاحي مذكراته من السجن، عن طريق محاميه الخاص بطريقة غير معروفة إلى الآن، لكنها حال نشرها لأول مرة في كتاب «يوميات جوانتانامو» عام 2015 شكلت صدمة في المجتمع الأمريكي، وحققت الأعلى بيعًا، بينما جعلت القيم الأمريكية موضع اتهام لم يُسبق أن وضعت فيه، فلا قواعد للاشتباك يمكن الاحتجاج بها، ولا أخطاء غير متعمدة وقعت، فقط تعذيب معتقلين بدمٍ بارد، والمثير أن ولد صلاحي ظل في السجن 15 عامًا لم تُوجه له تهمة واحدة.
معتقل جوانتانامو
أردف الكتاب تقرير مجلس الشيوخ الأمريكي حيال تعذيب السجناء في سجن جوانتانامو، المنشور أواخر عام 2012، والذي عُد اعترافًا رسميًا من أعلى مرجع تشريعي في الولايات المتحدة الأمريكية بهتك حقوق الإنسان. أغفل التقرير أبشع الجرائم لصالح تلك التي تعد روتينية في دولٍ أخرى، كتجويع السجناء وضربهم بالعصي لنزع الاعترافات منهم.
لم يتوسع تقرير مجلس الشيوخ لأي ذكر حول سجناء أقدموا على الانتحار بعدما يئسوا في الحصول على أي معاملة إنسانية داخل المعتقل، حيث بلغ عدد من انتحروا داخل السجن فقط حتى عام 2012 سبعة مسجونين، كان آخرهم الشاب اليمني الأصل، عدنان عبد اللطيف، واكتملت الصورة بما نشره السجين الأفغاني عبدالسلام ضيف عقب خروجه من السجن، في كتابه «صورة من معتقل جوانتانامو».
أبريل (نيسان) الماضي، شهدت ولاية قندوز الشمالية حادثًا مأساويًا، حيث ما يزيد عن مئة طفل من حفظة القرآن استهدفتهم طائرة عسكرية إبان حضورهم لحفل توزيع شهادات تكريم لهم بإحدى المدارس القرآنية، تتبع المدرسة حركة طالبان، التي فرضت سيطرتها حديثًا على الولاية بعد عام كاملٍ من الحصار.
الحادث لم يكن بأيادٍ أمريكية، القوة الغربية الوحيدة المنوطة بتوجيه الضربات الجوية من سماء أفغانستان، لكن نفذته طائرات أفغانية، تقول الحكومة أنها لم تكن تستهدف المدنيين، إنما عسكريين تابعين لحركة طالبان، وفي تعليقها على الحادث قالت الإدارة الأمريكية أن هناك أخطاء تُرتكب لكن لا صلة لقواتها بالحادث، حتى أن اثنين من أفرادها قُتلوا في غارة أفغانية في خطأ موازٍ.
ما لم تفصّله الإدارة الأمريكية أنها المنوطة كذلك بإعادة تأهيل القوات الأفغانية، ولا سيما سلاح جوها، منذ عام 2007، لكن بوتيرة بطيئة، كما أوردت وكالة الصحافة الفرنسية في ملخصٍ نشرته عقب الحادثة عن إمكانات أفغانستان العسكرية، ولا توجد أرقام دقيقة حول حجم الأسطول الأفغاني وعدد الطيارين، لكن الوكالة الفرنسية نقلت عن مسؤولين في القوات الأمريكية قولهم في فبراير (شباط) الماضي أنه يتضمن أربع طائرات نقل «سي – 130» و24 طائرة تموين «سي – 208» و24 مروحية روسية «مي-17» سيتم استبدال 159 مروحية بلاك هوك «يو إتش-60» و12 طائرة «آي-29 سوبر تاكانو» هجومية و25 مروحية «إم دي-530» هجومية بها.
الجدير بالذكر أيضًا أن القوات الجوية الأفغانية ألقت قنبلتها الأولى العام الماضي، بينما تزايدت وتيرة هجماتها على متمردي طالبان، في حين ألقت مارس (آذار) الماضي قنبلتها الأولى الموجهة بالليزر، الملفت للنظر حول هذه الأخبار أن عمليات متمردي القاعدة لم تهدأ، وشهدت مؤخرًا وتيرة متسارعة في حين يحقق مقاتلو الحركة تقدمًا على الأرض في عدد من الجهات، وعلاوة على كل ذلك فإن الأمم المتحدة أشارت في بيانها السنوي لعام 2017 حول الخسائر المدنية، إلى أن مزيدًا من الأفغان يسقطون ضحايا الغارات الجوية بزيادة 7% عن العام الماضي، وهي أعلى نسبة منذ أن بدأت الأمم المتحدة بتوثيق هذه الإصابات عام 2009 !
الخلاصة، أن المدنيين العزل يسقطون كل يوم في أفغانستان، بالأيادي الأمريكية تارة، وبتلك التي دأب الأمريكيون على تدريبها وتطويرها تارة أخرى.
إبراهيم بديوي