سعى العديد من الحُكام العرب إلى ترسيخ شرعيتهم باعتبارهم ملوكًا ورؤساء لشعوبهم عبر وسائل مختلفة دون وضع قواعد الدستور والقانون التي تنظم استمراريتهم في إطار انتخابى يفترض أن يكون نزيهًا في الاعتبار. واعتبروا هذه الوسائل هي المُحدد الرئيس لوجودهم وشرعيتهم وهيئتهم التي يريدون أن يكونوا عليها دائمًا.
وبرز من بين هذه الوسائل تسويق علتهم الصحية في شكل دعاية ترويجية تتحدث عن ضعفهم الذي يتطلب دعم شعوبهم من أجل استمرارهم في مناصبهم، وذلك عبر وسائل الإعلام الحكومية التي تحولت إلى أبواق لهذا الغرض. يرسم التقرير التالي صورة عن أبرز الحُكام العرب الذين استخدموا المرض دعايةً من أجل تحسين صورتهم، ونماذج لهذه الدعاية في أكثر من بلد عربي.
أسماء الأسد.. السرطان قد يُجمّل وجه النظام القبيح
قبل أسابيع أعلنت الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية السورية إصابة أسماء الأسد زوجة الرئيس السوري بشار الأسد بسرطان الثدي، وأنها تخضع للعلاج من ورم خبيث في مرحلة مبكرة، مُرفقة مع الخبر صورة تظهر فيها بشار الأسد ينظر إلى قرينته وعلى وجهه ابتسامة عريضة، تقابلها زوجته بابتسامة أخرى تبدو فيها غير عابئة بالمرض.
أحدث إعلان إصابة قرينة الأسد زلزالًا على مواقع التواصل الاجتماعي؛ فالصورة التي ظهرت فيها أسماء مع بشار بعثت بمعاني حول الحُب الذي يجمعهما، ورسمت كذلك صورة لبشار على أنه رجل يقف إلى جوار زوجته المريضة، راض بما كتبه القدر عليه بابتسامة ترتسم على وجهه، وهي صورة مخالفة في زوايا كثيرة للواقع المتكامل؛ إذ قتل نظام بشار الأسد آلاف المدنيين من شعبه متعاملًا بالعنف مع مطالب قطاع كبير منهم بتحسين ظروفهم، وتخفيف قبضته القمعية عليهم.
في الصورة التي نشرتها مؤسسة الرئاسة بدت أسماء في هيئة الأنثى والزوجة التي تحتاج دعمًا من شعبها في مشهد موحٍ ودال على رغبة المنظومة الإعلامية التابعة للأسد في رسم صورة لعائلة الأسد الصغيرة، وأن أحوالهم مثل أحوال عوام السوريين في الشارع؛ فهم يمرضون ويعانون مثلهم.
عزز من هذه الفرضية تعليق لقرينة الأسد في منشور على صفحة رئاسة الجمهورية تقول فيه: «أنا من هذا الشعب الذي علم العالم الصمود والقوة ومجابهة الصعاب.. وعزيمتي نابعة من عزيمتكم وثباتكم كل السنوات السابقة».
وسعت وسائل الإعلام الموالية للنظام إلى تسويق خبر مرض قرينة الأسد؛ في محاولة جادة منهم لرسم صورة عائلة بشار على خلاف الصورة التي تظهر في نشرات الأخبار العالمية يوميًا، والتي تظهره رئيسًا لنظام ينتهك ويقتل شعبه؛ إذ نشرت جريدة «الأخبار» اللبنانية، وهي أحد المنابر الإعلامية القريبة من منظمة «حزب الله»، وتدعم الأسد، تقريرًا أرادت من خلاله توسيع دوائر المتعاطفين معها بربط أدوار زوجة الأسد بمرضها؛ إذ قالت: «ونظرًا للنشاط الخيري الواسع لزوجة الرئيس السوري ورعايتها الدائمة لذوي الشهداء، واجتماعاتها السنوية مع المتفوّقين، وقربها من الناس في أكثر من محفل، فقد شهدنا في الساعات الماضية أعلى درجات التضامن الفعلي».
ولم يتوقف استثمار مرض قرينة الأسد لاستجداء عاطفة قطاعات واسعة من شعبه من جانب وسائل الإعلام الموالية له عند هذا الحد، بل تضمن كذلك الدفع بعدد من نجوم الفن الموالين لنظام الأسد، مثل فادي صبيح، ومصطفى الخاني، وسيف الدين السبيعي، وديمة ناصيف، للتضامن مع «سيّدة الياسمين»، كما أسموها في تعليقاتهم التي ربطت بين حال سوريا ومقاومتها للحرب خلال سبع سنوات عجاف – بحسبهم – وبين ثبات سيّدة القصر الجمهوري وثقتهم بانتصارها على السرطان.
مبارك.. «مرض الرئيس يُظهر معدن المصريين الأصيل»
خلال رحلة الرئيس المخلوع محمد حسنى مبارك الأخيرة له في الحُكم إلى ألمانيا من أجل خضوعه لعملية جراحية لاستئصال ورم حميد، تنافست وسائل الإعلام المصرية كافة في بث صور له متفرقة خلال رحلة مرضه، تارة وهو جالس يتحدث مع الأطباء، وتارة وهو يترجل في إحدى متنزهات المستشفي التي يٌعالج فيها. كانت هذه المشاهد تُرفق دومًا بمقالات في الصحف القومية تتحدث عن ضرورة دعم الرجل في هذه المرحلة، وتربط بين ضعف ووهن البلد بمرضه عبر استجداء عاطفة الشعب تجاه دعم مبارك، دون اعتبار لمشاكل: الفقر، والجهل، والفساد، المستشرية.
وفي أعقاب عودة مبارك من رحلة العلاج في ألمانيا، أخذت وسائل الإعلام تستدعي عاطفة جموع المصريين تجاهه؛ سواء في مقالات رأي، أو أغاني دعم للرئيس للرئيس بمناسبة عودته؛ مثلما فعلت المُطربة شيرين عبد الوهاب عندما غنت أغنية «يا ريسنا».
وتخلل مقطع الفيديو المصور للأغنية مشاهد لمبارك خلال فترة النقاهة، وذكرت وسائل الإعلام الرسمية حينها أن الأغنية تعبر عن الحب الذي يحمله ملايين المصريين لقائدهم، ولم تكن هذه المشاهد جديدة على المُتابع المصري؛ إذ نجحت وسائل الإعلام في استثمار مرض الرئيس باستجداء عاطفة الشعب، وتحويل نظرة الشعب عن مشاكله إلى النظر لمبارك باعتباره بطلًا مغوارًا يستحق الدعم في فترات شدته، مؤكدين على أن هذا هو معدن المصريين وقت الشدائد.
ولم يتوقف الأمر على فترة علاجه في الخارج فقط، بل امتد إلى مشهد عودته من رحلته العلاجية؛ إذ نقل التلفزيون المصري بثًا مباشرًا لوصول الرئيس المخلوع إلى شرم الشيخ برفقة زوجته عبر أحد مذيعيه الذي نقل للمشاهد وقائع هذه العودة، والحديث عنها باعتباره وكيلًا حصريًا، قائلًا: «وصول سيادة الرئيس بكامل عافيته إلى أرض الوطن، والكل يعلم أن هناك الملايين الذىن كانوا يرغبون في هذا الاستقبال، ولكن الرئيس مبارك لم يرض أن يكون له أي استقبال شعبى، ولكن بالتأكيد تصل مشاعر الحب والبهجة».
ولطالما استدعى االرئيس المصري المخلوع سيرة المرض في خُطبه السياسية؛ إذ أورد الحديث عن مرضه في أولى خطبه بعد عودته من رحلة العلاج أمام آلاف العمال في عيد العمال، وربط بين دعم الشعب له خلال رحلته العلاجية ووضع البلاد الجيد قائلًا: «ليس هناك من هو أكثر سعادة مني وأنا أقف بين أياديكم الآن في أول لقاء يجمعنى مع الجماهير بعد عودتي من رحلة علاج شاقة عرفت فيها طعم فراق الوطن، وذقت خلالها حلاوة دعائكم، وحرصكم على متابعة رحلتي العلاجية، ضاربين في ذلك مثلًا تتمناه جميع دول العالم في كيف تكون العلاقة بين الدولة والشعب»، بينما كانت تقاطعه أصوات متداخلة لجموع من العمال: «ألف حمدًا لله على السلامة يا ريس.. البلد كانت مضلمة من غيرك يا ريس.. مصر محتاجة لك يا ريس».
عبد الله آل سعود.. عودة الملك من رحلة العلاج يوم «عيد»
يتحول مرض ملوك آل سعود إلى ما يُشبه المراسم الجنائزية التي لا تنتهى إلا بعودتهم لبلادهم؛ إذ سعت وسائل الإعلام السعودية إلى استثمار مرضهم في تعزيز روابط حُكمهم، وترسيخ شرعيتهم أوصياء على المملكة؛ لتنتعش البلاد بالمنح المالية مع تعافيهم مما أصابهم، ويظهر مدى استثمار المرض في الدعاية لآل سعود من خلال استعراض الكيفية التى تناولت بها وسائل الإعلام والوزارات الحكومية رحلة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز العلاجية في فبراير (شباط) 2011، والتي بقي على أثرها خارج بلادها لثلاثة أشهر متواصلة.
كانت أولى مظاهر استثمار مرض الملك عبد الله لرسم صورته أبًا للمملكة وتعزيز شرعية حُكمه، هي منح مواطني المملكة إجازة رسمية يوم عودته، سواء في المدارس، أو المصالح الحكومية، علاوة على حوافز مالية. فيما تحضر الأغاني دومًا في رحلات عودة حُكام المملكة إلى السعودية بعد رحلة المرض؛ إذ تنافس فنانو الخليج على الغناء ابتهاجًا بعودة الملك عبد الله، وكان من أبرزهم الفنان السعودي محمد عبده، والفنانة الإماراتية أحلام.
وحملت أغنية الفنانة أحلام كلمات دالة على هذا المعنى: «يا سمو العز ما نلقى مثيلك.. كلنا نفداك شيبان وشباب.. ياللي عزك عزنا وفايض جميلك.. حنا أمة لا نخاف ولا نهاب»، بينما جاءت كلمات الفنان السعودي راشد الماجد: «حبيب الشعب عبد الله … عطى الشعب وعطي الله».
وعلى مدار فترة مرض الملك عبد الله سعت كافة الوزارات الحكومية إلى رسم صورة له تُظهره في صورة الحاكم الاستثنائي الذي لا يتوقف عن مُتابعة أحوال مواطنيه في أشد فترات مرضه؛ فهو لا يكل ولا يمل من مُتابعة شؤونهم.
ظهر ذلك من واقع تصريحات لنجله سعود بن عبد الله عبد العزيز، في حوار لجريدة «عكاظ» السعودية، قال فيها: إن «الملك عبد الله بعد خروجه من غرفة العمليات، وقبل مغادرته غرفة الإفاقة، كان أول شيء سأل عنه: طمئنونى على الشعب والوطن.. فيه حد ناقصه شيء؟»، مؤكدًا أن الملك كان يوصيهم على السعوديين الذين يعالجون في أمريكا «شوفوهم اسألوا عنهم، ناقصهم شيء».. وأنه لم يكن يهدأ له بال، وكان يطلع على ما يرده من معاملات، ويتضايق إذا ما طُلب منه الراحة وعدم إجهاد نفسه.
ولا تختلف آلية تعامل وسائل الإعلام أو الأجهزة الحكومية السعودية مع مرض أي عضو في أسرة آل سعود عما فعلته مع الملك عبد الله؛ إذ تُشكل الآلية السابقة وتسويق المرض سياسيًا لتلميع الحاكم منهجًا مستقرًا عليه من جانب آل سعود لتعزيز شرعيتهم.
محمد السادس.. تصحيح مسار البلاد بعد رحلة العلاج
تُركز استراتيجية الحكومات العربية دومًا في تسويق مرض رأس السلطة لصالحه، وذلك بالربط دومًا بين تعافيه من المرض والبدء باتباع سياسة تصحيحية جديدة، عبر قرارات حاسمة يُنظر لها على أنها قرارات إعادة تصحيح المسار؛ في محاولة لإثارة انتباه جموع الشعب تجاه الحاكم، والنظر إلى أن هيبته حاضرة دومًا، ومُتابعته لأحوال رعيته لا تنقطع حتى خلال فترة مرضه.
يظهر ذلك جليًا مع وقائع مرض ملك المغرب محمد السادس، والذي اضطر للغياب ما يزيد عن ثلاثة أشهر؛ إثر إجرائه عملية جراحية في العاصمة الفرنسية باريس؛ وذلك في نهاية العام الماضى، قبل أن يعود في أبريل (نيسان) العام الجارى، وتزامن عودته مع عودته سلسلة قرارات تصحيحية لعدد من قادة وزارة الداخلية وعدد من المسؤولين المعنيين في وزارة الاستثمار.
وتُشكل الأغنية حلقة مهمة في التعامل مع خطة القصر لتسويق مرض ملك المغرب؛ إذ جرى إعداد مقطع فيديو خلال مرضه الأخير شارك فيه فنانون عرب وأجانب، وقدموا من خلال هذا المقطع الذي حمل اسم «بشرة خير» تهانيهم بعودة محمد السادس إلى المغرب بعد العملية الناجحة التي أجريت له في القلب بالعاصمة الفرنسية باريس.
سعى القصر كذلك إلى التعامل مع مرض الملك بشكل رسمي؛ إذ بات حريصًا على إصدار بيانات خلال السنوات الأخيرة لإطلاع الرأي العام بأمور تهم صحة العاهل المغربي، واحد من هذه البيانات كان في سبتمبر (أيلول) العام الماضي، حين نشرت وكالة الأنباء الرسمية المغربية بيانًا رسميًا عن إجراء الملك محمد السادس عملية جراحية بالمركز الاستشفائي الوطني لطب العيون «كانز فان» بباريس في فرنسا، ولم يكتف القصر بهذا الخبر، بل أسهب في تفاصيل العملية التي يخضع لها ملك المغرب موضحًا أن «الملك كان يعاني من إصابة بـ(الظفرة) على مستوى العين اليسرى، وامتدت إلى القرنية».
ولا تُعد مسألة تعامل القصر بشفافية تجاه مرض ملك المغرب أمرًا له علاقة باستجداء عاطفة الشعب في المقام الأول كما في بقية الدول العربية، بل له صلة بشكل وثيق بالخشية من تسريب الأخبار خارج الأطر الرسمية؛ فالقصر يفضل الإعلان المباشر، بدلًا عن التسريبات التي غالبًا ما ترافقها شائعات وتضخيم، وذلك وفقًا لتحليل صادر عن عبد الرحيم العلام، المحلل السياسي، وأستاذ العلوم السياسية في جامعة القاضي عياض بمراكش، لموقع «أصوات مغاربية».
عمرو أحمد