إدارة الرئيس دونالد ترامب أشهَرت سيفَ الحَرب الاقتصاديّة في وَجهِ العَديد من الدُّوَل مِثل روسيا والصين وتركيا وإيران والاتحاد الأوروبي، فجاءَ رد هَذهِ الدُّوَل، مُنفَرِدَةً أو مُجتَمِعةً، بالتَّخلِّي عن الدُّولار في تَعامُلاتِها التِّجاريّة البَينيّة كخُطوَةٍ أُولى، وسَريعة، ربّما تكون مُقدِّمةً لسِلسَلةِ خُطواتٍ أُخرَى.
روسيا وتركيا اللَّتان فرض عليهما الرئيس ترامب عُقوباتٍ اقتصاديّة قرَّرتا تَكوين جبهةٍ واحِدة ضِد الدُّولار، والتَّعامُل بعُملاتِها الوطنيّة، أي الرُّوبِل واللَّيرة، في جَميع تَبادُلاتِهما التجاريّة، وأعلَنت شركة “روس أوبورن إكسبورت” التي تُدير 85 بالمِئة من صادِرات الأسلحة الروسيّة أنّها قرَّرت التخلِّي كُلِّيًّا عن العُملةِ الأمريكيّة في كُل مبيعاتِها من الأسلحةِ والمُعِدَّات العَسكريّة.
الرئيس رجب طيب أردوغان الذي تتدهور علاقاته مع حليفِه الأمريكيّ بِشَكلٍ مُتسارِعٍ على أرضيّة الخِلافات بين البَلدين بسبب شِراء أنقرة صواريخ “إس 400” الروسيّة، واحتجازِها القِس الأمريكيّ أندرو برونسون، واتَّهم أمريكا بالوُقوف خلف مُؤامرةِ إضعاف اللَّيرة التركيّة، أعلن أنّه تَوصَّل إلى اتِّفاقاتٍ مع الصين وإيران وأوكرانيا وروسيا بالتَّعامُل بالعُملات الوطنيّة لهَذهِ الدُّوَل.
ديمتري ميدفيديف، رئيس الوزراء الروسي، اعتبر فرض أمريكا عُقوباتٍ على النِّظام المَصرفيّ الروسي “إعلان حرب” وأنّ بلاده ستَرُد بتَخفيضِ استثماراتِها بالدُّولار إلى الحُدود الدُّنيا، بِما في ذلك السَّنَدات الأمريكيّة، بينما أفاد دينيس مانثوروف، وزير التجارة الروسي، أنّ بِلاده قرَّرت التَّعامُل مع جميع دُوَل الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينيّة بالعُملات الوطنيّة، وبَدأ قِطاع السيّارات الروسي في بَيعِ إنتاجِه إلى تركيا باللَّيرةِ التركيّة، كما ستتم المُعاملات التجاريّة مع أوروبا باليورو، ويَدرُس الاتحاد الأوروبي تسديد أثمان وارِداتِه النفطيّة وتَعامُلاتِه التجاريّة مع إيران باليورو أيضًا.
مِن المُؤكِّد، وحسب الكَثير من الخُبَراء الاقتصاديين، أنّ هَذهِ النَّقلة من الدُّولار إلى العُملات المحليّة ستكون مَحفوفةً بالمَخاطِر في المَراحِل الأُولى، لأنّ العُملة الأمريكيّة ظَلَّت تُمَثِّل العَمود الفِقريّ في مُعظَم التَّعامُلات التجاريّة العالميّة طِوال المِئة عام الماضِية على الأقل، ولكن في ظِل الانفتاح التِّجاري العالميّ، وتَراجُع الهَيمَنة الاقتصاديّة الأمريكيّة، بَدأ هذا الوَضع يَتغيَّر، وقد يكون الدُّولار هو الضحيّة على المَدى البَعيد إذا ما اتَّسَعت دائِرة الجَبهة التي تَخوض الحَرب ضِدَّه، وتتطَلَّع إلى إنهاءِ هيمنته.
انضمام دُوَل الاتحاد الأوروبي جُزئيًّا إلى هَذهِ الجَبهة المُعارِضة لهَيمنة الدُّولار يُعَزِّز قوّتها حَتمًا، وإلقاء الصين التي تُعتَبر حاليًّا ثانِي أقوى اقتصادٍ في العالم بعد الوِلايات المتحدة بثِقَلِها خلفها أيضًا، خاصَّةً بعد فَرضِ ترامب عُقوباتً اقتصاديّةً عليها، على شَكلِ رُسومٍ وضَرائِب عالية على صادِراتها قد يَصِل حجمها إلى 500 مِليار دولار، سَيُؤثِّر سَلبًا على العُملةِ الأمريكيّة، مع وضعنا في الاعتبار أنّ الصين هي أكبَر شريك تِجاريّ مع أمريكا، وأنّ حجم استثماراتِها في السَّندات الأمريكيّة يَصِل إلى ترليونيّ دولار.
الرئيس ترامب بإعلانِه الحَرب الاقتصاديّة على أكثَر مِن عشرين دولة حتى الآن، يتَصرَّف مِثل المُحارِب الذي يُطلِق النار على قَدمِه، وبِما يُهَدِّد قُوّة اقتصاد وعُملَة بِلادِه (الدولار) على المَدى البَعيد.
صحيح أنّ الرئيس ترامب حَقَّق طَفْرةً اقتصاديّةً مُنذ وصوله إلى السُّلطة قبل عامَين تقريبًا، وخَفَّض مُعدَّلات البِطالة بمِقدار النِّصف (تَبلُغ حاليًّا 4 بالمِئة)، ولكنّها تظل طَفرةً مُؤقَّتةً ومُهدَّدةً في ظِل هذا التَّحشيد العالميّ المُتسارِع ضِد حُروبِه الاقتصاديّة.
نحن في هَذهِ الصَّحيفة “رأي اليوم” مع إنهاء الهَيمَنة الاقتصاديّة الأمريكيّة، وسيطرة الدُّولار على التَّعامُلات التجاريّة على مُستوى العالم، خاصَّةً أنّ أسعار هَذهِ العُملة الأمريكيّة مُبالغٌ فيها، ولا تَرتكِز إلى الاعتبارات الماليّة المَعروفة، أي التَّغطية بالذَّهب والمَعادِن النَّفيسةِ الأُخرى، وهَذهِ مَسألةٌ أُخرَى.
الابتزاز الماليّ والاقتصاديّ الذي يَستخدِمه الرئيس ترامب في حُروبِه سيَرتَد عَكسيًّا عليه، واقتصاد بِلادِه، فعِندما يَخسَر الحُلفاء الأُوروبيين وكندا وروسيا والصين ومُعظَم دُوَل آسيا وأمريكا اللاتينيّة وأفريقيا.. فمَن تَبقَّى لَهُ غير إسرائيل وبَعضِ الدُّوَلِ الخليجيّةِ النِّفطيّة؟
هنيئًا له بهَؤلاء الأصدِقاء؟