يبدو واضحاً أن منابع القلق الإسرائيلية في الآونة الأخيرة ارتفعت وتيرتها بشكل ملحوظ، وبخاصة بعد الاتفاق السوري الإيراني، إذ ترى فيه تل أبيب ازدياد الترابط والتكامل بين محور المقاومة ومظلة لشرعنة التمركز الإيراني، واستقطاب العراق إليه، وخاصة أن سوريا أضحت على أبواب تحرير كامل لأراضيها من سيطرة الجماعات الإرهابية.
وترى فيه أيضاً عنواناً شرعياً لا يخدم مصالحها وأجنداتها ويمكن في ظله إعادة بناء القدرات الدفاعية السورية.فالاعتراض الإسرائيلي الحاد على هذا الاتفاق يكشف حقيقة جوهرية أن تل أبيب لا تعارض فقط التمركز الإيراني في سوريا، بل تعارض أيضاً بمقياس ذاته وربما أكثر، إعادة بناء القدرات الدفاعية للجيش السوري كما أكد عليه وزير الدفاع الإيراني أمير حاتمي أثناء زيارته مؤخراً لدمشق.
الكيان الصهيوني الذي فشل في فرض خطوطه الحمر في سوريا، ويجد صعوبة في فرض هذه الخطوط، يواجه بالمعنى الواسع للكلمة “الفشل الاستراتيجي”، وهذا الفشل متعدد الأوجه فهي سياسياً لم يستطع إقناع موسكو بما تسميه تل أبيب مصالحها الحيوية في سوريا ولم تتمكن من إسقاط الدولة السورية أو تغيير هويتها السياسية وتموضعها ضمن محور المقاومة، وعسكرياً لم يتمكن من خلق طوق أمان على حدود الأراضي المحتلة شمالاً، ولم يحد من القدرات المتنامية لحزب الله، ولم يتمكن من تجفيف منابع تسليحه، وبالمنطق الأوسع لم يتمكن اليان الصهيوني من التفوق الاستراتيجي في المنطقة على مستوى الردع والرعب.
جملة المواقف والتصريحات لكبار المسؤولين في تل أبيب تظهر تناقضاً وهوة واسعة، وبخاصة تلك التي تمحورت أخيراً حول حضور إيران في سوريا، فالوزيرأفيغدور ليبرمان وضعها في سياق “التقلص” نتيجة “أفعال واتصالات” الكيان الصهيوني، وهو ينافي ما صدر عن رئيس الحكومة الاحتلال ، بنيامين نتنياهو، حين قال إنها “معركة مسار طويل، وتتطلب صبراً وإصراراً يؤديان في نهاية المطاف إلى تحقيق النتيجة”.
بين التناقض في التصريحات، يزداد حجم الإخفاقات الاستراتيجية لدولة الاحتلال، وهذا ما يدفعها بشكل دائم إلى استعراض زائد للقوة في التصريحات والمواقف، لكن ليس بإمكانها دفع الحقائق وإنكارها، وفي مقدمتها، أن كل ما صدر عنها، من أفعال وأقوال خلال السنوات الثلاث الماضية، لم يؤد إلى نتائج مهمة إزاء سوريا ومحور المقاومة، وهذا ما يضع المسؤولين الإسرائيليين بين خيارات ضيقة ومحرجة في الوقت ذاته:
أولاً: السعي الدؤوب للاستمرار بعملياتها العدوانية دون الحربية للضغط على روسيا وإخراج إيران من سوريا، وهذا ما عبر عنه صراحة ليبرمان إنه «مع احترامي وتقديري للاتفاقيات والتفاهمات (بين الدول وسوريا)، نحن لن نلتزم بها، وفقط ما سنلتزم به هو مصالح “إسرائيل” وأمنها القومي»، الأمر الذي قد يقود تل أبيب لحماقة في استهداف مواقع حيوية للجيش السوري أو أحد حلفائه من المقاومة، أو أن تلجأ لسياسة الاغتيالات واستهداف مخازن الأسلحة بذريعة منع وصولها لحزب الله وذلك قبيل أو أثناء اجتماع طهران، وذلك في محاولة منها لخلط الأوراق والضغط.
ثانياً: استثمار الواقع المتأزم للإدارة الأميركية لتحقيق هدفين: يكمن الأول في التمهيد لعدوان غربي على سوريا من خلال تشجيع الإدارة الأميركية على ذلك لتحسين وضعها الانتخابي قبيل الانتخابات النصفية للكونغرس، وبهذا السياق قد تسهم تل أبيب بشن عدوان استباقي لاستفزاز الجيش السوري وكشف جهوزية الدفاعات الجوية وطبيعتها، فضلاً عن تقديم بنك معلومات عن مواقع المراد استهدافها للقيادة العسكرية الأميركية، أما الهدف الثاني فهو استمرار ضغط الرسمي الإسرائيلي واللوبي الضاغط على الإدارة الأميركية لعدم سحب قواتها من الشمال الشرقي لسوريا وعلى طول الحدود السورية العراقية وصولاً للتنف، وتهديد الخط البري الواصل بين دول المقاومة.
ثالثاً: تمهيد الأجواء للارتقاء بمستوى التطبيع مع دول مجلس التعاون، ووضع كل الإمكانات المتاحة لإيجاد “تحالف عربي سني إسرائيلي أميركي” من المزمع التمهيد لإعلان تأسيسه الشهر القادم في البيت الأبيض، يسرع من تطبيق “صفقة ترامب” ويشرعن إنجازها ويخدم صراع محور واشنطن تل أبيب ضد محور المقاومة.
تل أبيب التي رأت أن الاتفاق السوري الإيراني، ينطوي على رسالة مضادة، ستؤدي إلى وضع “السياسة الإسرائيلية إزاء سوريا على المحك”، لأنه “شكل تجاوزاً للخط الأحمر الذي تم رسمه”، كما ورد على لسان عضو المجلس الوزاري المصغر ووزير الاستخبارات، يسرائيل كاتس، وهو يعبر حتماً عن جملة الإخفاقات الإسرائيلية المتراكمة في تقدير الأوضاع والرهان عليها وقد تؤدي آخر هذه الإخفاقات نحو أكبر حماقة يرتكبها الكيان المغتصب.
محمد نادر العمري – الوطن