أن يصبح زعيم حزب العمال جيريمي كوربين رئيسا للوزراء بعد أشهر، فذاك احتمال وارد في ظل تأرجح نتائج استطلاعات الرأي وتقاربها من جهة، وأزمة المحافظين والمملكة على خلفية الخروج من الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، لكن احتمال أن تجري انتخابات مبكرة مدفوعة بفشل مفاوضات حكومة تيريزا ماي في التوصل لاتفاق، قد لا يصب بالضرورة في صالح كوربين الذي باتت زعامته للعماليين محل جدل، وربما سيكون عرضة لمحاولة تجريده منها، لا سيما أن الحزب مقبل على مؤتمره السنوي.
العاصفة التي يمر بها حزب كوربين، بسبب ما بات يعرف بقضية معاداة السامية، قد تضع حياته السياسية في المحك لاتهامه صراحة في الآونة الأخيرة، وإن نجا من تداعياتها واحتفظ بزعامته للحزب، فإن هناك عقبة أخرى هي لزوم تغيير سياسة الحزب تجاه الخروج من الاتحاد الأوروبي، بتبنيه رسميا مطلب إجراء استفتاء جديد، إذ أن 59% (حسب دراسة للميرور ويوغوف) من المترددين في التصويت للحزب يؤيدون هذا المطلب للفصل في أي اتفاق.
ويبقى هذا الاحتمال حول رئاسة الوزراء رهين ما يحصل في بيت المحافظين، إذ يتطلب إجراء انتخابات مبكرة إعلان رئيس الوزراء لذلك، سواء كانت تيريزا ماي أو شخصية أخرى تخلفها في زعامة الحزب، وبالتالي في رئاسة الوزراء تلقائيا، ويتم تفعيل سحب الثقة بتلقي رسائل من 48 نائبا برلمانيا محافظا. وإن حصل هذا الأمر ستُحرم تيريزا ماي من المشاركة في السباق لزعامة المحافظين، وينتج عنه رئيس وزراء جديد دون انتخابات عامة، تماما كما وصلت ماي للمنصب في 2016.
ما يؤرق كوربين خلال الأسابيع والأشهر الماضية هو الضغوط المتزايدة عليه، إذ لم تشفع له تصريحاته التي أكد فيها أن حزب العمال لن يتسامح مع أي سلوك معاد للسامية، بل إن التهمة باتت تلاحقه شخصيا بأثر رجعي إلى ما قبل تزعمه للمعارضة في بريطانيا، حيث سعت وسائل إعلام يمينية إلى الإتيان بكل شاردة وواردة في سجل تضامنه مع الفلسطينيين، لتخرجها إلى العلن وتقدمها على أنها نزعة معادية للسامية، وقد تعالت أصوات ترشقه بذات التهمة من داخل حزب العمال.
بتعبير أكثر حدة، يقول النائب البرلماني فرانك فيلد إن زعامة الحزب باتت تصبح “قوة معادية للسامية في السياسة البريطانية”، وهو يعلن قبل أيام مغادرته للكتلة البرلمانية للعماليين بتلك الذريعة، ليصبح نائبا مستقلا بعد تمثيله لحزب العمال في البرلمان أربعة عقود كاملة. ويدور حديث عن أن السؤال الذي بات المطروح اليوم هو متى يستقيل نواب آخرون، وليس هل سيفعلون، كما كتب أندرو رونسلاي في مقاله بالغارديان عن تلك الاستقالات المماثلة المتوقعة.
وحسب صحيفة “الصان” البريطانية، فإن ما لا يقل عن اثني عشر نائبا عماليا يفكرون في مغادرة الكتلة البرلمانية، وبإمكانهم أن يثيروا تصويتا على سحب الثقة من كوربين، ولكنه سيكون شكليا على الأرجح لتأكيد الموقف ضد إدارته لقضية معاداة السامية، وليس رسميا لإزاحته والشروع في سباق للزعامة، فقد سبق لكوربين أن خسر قبل عامين تصويتا على سحب الثقة بـ172 صوتا ضده مقابل 40، لكنه فاز في الأخير على منافسه الوحيد أوان سميث بما يقارب 62%، إذ حظي بتأييد أكثر من 300 ألف عضو في حزب العمال.
الأزمة الداخلية خلفت شرخا محوره كوربين، لكن الزعيم الحالي يحظى بتأييد تيار اليسار العمالي (إذ يمثل الحزب يسار الوسط في بريطانيا)، والذي شكل قبل ثلاث سنوات قوة ناخبة ضاربة وجماعة ضاغطة قوامها بحسب إحصائيات أبريل الماضي 40 ألف عضو، هي منظمة “مومينتوم” اليسارية. وقد تأسست بعد شهر فقط من انتخابه في زعامة الحزب لتشكل امتدادا لخطه، ومع اشتداد حدة الصراع هدد زعيمها ومؤسسها جون لانسمان بإزاحة ما بين 12 و30 نائبا عماليا، في حال استمروا في نزعتهم العدائية تجاه كوربين.
لانسمان حليف قوي لكوربين، فهو من أكثر الشخصيات النافذة في السياسة البريطانية، كما أن خلفيته اليهودية تؤكد أن البريطانيين اليهود منقسمون حول تعريف معاداة السامية، وهو بشكله الكامل كما حدده ما يعرف بالتحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة، ومقره برلين، يتضمن “الادعاء بأن وجود دولة إسرائيل هو مسعى عنصري” (بنص التعريف وأمثلته). وقد بات حزب العمال، لا سيما زعامته، تحت ضغوط شديدة لتبني جميع الأمثلة، وهي أحد عشر كل منها تكون مدعاة لتهمة معاداة السامية، بما في ذلك انتقاد الكيان الإسرائيلي، في ظل الاعتراض على المثال المشار إليه.
الداعمون لكوربين، والمفندون لـ”عنصرية” حزب العمال تجاه اليهود، بينهم يهود أنفسهم منضوون تحت منظمة “الصوت اليهودي من أجل حزب العمال”، وهو تيار يقف ضد المنظمة البريطانية غير الحكومية المعروفة بـ”الحملة ضد معاداة السامية” في تحريكها لقضية معاداة السامية داخل حزب العمال، وتعتبر أن هذه القضية ملفقة إذ وجهت نداء في موقعها لمؤيديها، تدعوهم فيها إلى الإدلاء بشهاداتهم حول تجربتهم داخل حزب العمال، في مواجهة شهادات تلقتها لجنة المساواة وحقوق الإنسان (جهاز عمومي غير حكومي).
وقد سبق لـ”الحملة ضد معاداة السامية” أن نشرت قبل عامين تقريرا من 13 صفحة بعنوان “المسلمون ومعاداة السامية”، وتزعم فيه أن “هناك مستوى مرعب من النزعة المعادية للسامية بين البريطانيين المسلمين” وأنه “من المرجح أن يتعاطف البريطانيون المسلمون المعادون للسامية مع الإرهاب”. وقد تأسست هذه المنظمة غير الحكومية في 2014، وتحدد مهمتها بجمع وتحليل بيانات جرائم معاداة السامية من جميع قوات الشرطة في المملكة المتحدة. وتقول منظمة “الصوت اليهودي من أجل حزب العمال” إن هذه الحملة قد ذكرت هدفها بأن تبعد جيريمي كوربين من الحياة العامة.
وزير سابق للمالية في حكومة الظل العمالية اعتبر أن كوربين “تجاوز الخطوط الحمراء” بتصريحاته حول الكيان الإسرائيلي واليهود، وأنه ينبغي عليه أن يدرك لماذا البريطانيون اليهود مستاؤون وقلقون من زعامته لحزب العمال. والأخطر على الحياة السياسية لكوربين هو أن الهجمة التي تستهدفه، رفعت سقفها ربما إلى أعلى حد يمكن أن تصل إليه، باعتبار وصوله إلى رئاسة الوزراء “تهديدا وجوديا” لليهود في بريطانيا، وذلك في ثلاث صحف بريطانية يهودية رئيسية.
كبير حاخامات بريطانيا السابق جوناثان هنري ساكس، لم يتردد في الرد سريعا على سؤال مذيع البي بي سي إن كان اليهود يفكرون فعلا في مغادرة بريطانيا، فرد بالقول: “طبعا”. وضرب الحاخام مثلا نموذج فرنسا التي قال إن يهودها بدؤوا في مغادرة فرنسا منذ 16 سنة بسبب هجمات إرهابية ضد أماكن يهودية، وليس إسرائيلية حتى.
وقد تعرض كوربين مجددا لتهمة معاداة السامية قبل أيام، بعد أن تم إظهار فيديو له يعود لـ2013، تحدث فيه عن فريق من الصهاينة البريطانيين (وليس كلهم)، بأنهم لا يفهمون روح الدعابة الإنجليزية رغم أنهم عاشوا طويلا في بريطانيا، ما جعل كوربين يقف مرة أخرى موقف المدافع عن نفسه، إذ أكد أنه استخدم مصطلح الصهاينة “بالمعنى السياسي الدقيق وليس ككناية عن الشعب اليهودي”.
يواجه كوربين سيلا من الانتقادات، ويبدو أن انتقاله من زعامة المعارضة إلى رئاسة الوزراء، ولو كمجرد احتمال قائم، سيواجه عسرا شديدا أشبه ما يكون بولادة قيصرية، وإن حصل فإما أنه سيسعى لتجنب انتقاد الاحتلال الإسرائيلي، وهذا ليس من طبع كوربين، وإما أن يتحمل تلقي مزيد من الضربات ويكون عرضة لعواصف هوجاء، تفقده التركيز على إدارة شؤون المملكة وأزماتها، إن لم يكن المنصب الطامح إليه ذاته، وما أكثرها راهنة وتلوح في الأفق!
* محمد بوعبد الله – لندن