33يوماً خلف العدسة…وقائع تذكر للمرة الأولى

في اليوم الأول لوقف إطلاق النار، بعد 33 يوماً من العدوان، كنتُ في حالة يُرثى لها، مثل كلّ الذين صمدوا خلال العدوان. كنت أغطّي عودة بعض المهجّرين في بلدة العديسة حيث بقايا الحمّالات الإسرائيليّة…

الإعلامي علي شعيب
في صبيحة 12 تموز 2006م، كنت في أحد أفران بلدتِي “الشرقيّة” أصنع “المناقيش”، عندما وردني اتصال أبلغني بتنفيذ المقاومة عمليّة في عيتا الشعب، وأنّ الأمور يمكن أن تتطوّر. هذا الخبر نزل كالصاعقة عليّ؛ لأنّني لم أكن مستعدّاً لظرفٍ كهذا. كنت لا زلت أرتدي ملابس المنزل، و”المناقيش” لم تنضج بعد، والوقت لن يرحمني.. أذكر حينها أنّي ركضت إلى السيارة لأتفقّد “عدّة التصوير”. ما إن تأكّدت من وجودها، حتّى انطلقت بالسيارة وتوجّهت مسرعاً نحو منطقة العمليّة كما أنا، وتركت المناقيش في الفرن وكلّ شيء خلفي… ومرّ 33 يوماً، أحاول وضعها أمام عدستي.

الأيّام الأولى: غارات وعدوان شرس
مع بداية الطريق، اتّصل بي الأستاذ غسّان بن جدّو(1) وقال لي: “هناك حديث عن أسرى صهاينة في العمليّة”، فأجريت بعض الاتصالات وحصلت على التفاصيل، وأدركت حينها أنّ العمليّة لن تمرّ دون ردّ فعل، وأنّ أكثر المناطق التي ستكون مستهدفة في الردّ هي مزارع شبعا؛ كونها كانت خارج إطار الخطّ الأزرق، وقد شهدت سابقاً العديد من العمليّات العسكريّة. توجّهت نحو القطاع الشرقي؛ لأنّ أحد المصورين في المنار أخبرني أنّه سيتّجه إلى “عيتا”، ومع وصولي إلى مقربة من سهل الخيام في طريقي إلى مزارع شبعا، سمعت تحليقاً كثيفاً للطيران الحربي في أجواء المنطقة، وبعدها دوّى انفجار كبير!
وردني أنّ غارة استهدفت أحد المنازل بين “مرجعيون” وبلدة “دبّين”، وكانت هذه الغارة فاتحة العدوان الإسرائيلي على الجنوب، وأدركت حينها أنّ الأمر لم يعد مقتصراً على مزارع شبعا، وأنّنا أمام مرحلة جديدة من التغطية في مناطق واسعة، خصوصاً مع انتشار رقعة الاعتداءات .
رسائل على الهواء وتصعيد العدوان
توالت الأحداث بسرعة، غارات على مرتفعات كفرشوبا وعلى جسر القاقعيّة.. غارات وقصف جنوني على محيط عيتا الشعب، تبعتها غارات جويّة على عدد من الجسور في منطقتَي النبطيّة وصور. كلّ هذه الأجواء والتفاصيل كنت أنقلها عبر الرسائل المباشرة على الهواء، عبر قناة المنار وأثير إذاعة النور.. كل هذا و”المناقيش” لا زالت في الفرن.
انقضى اليوم الأول، وبقيت في المنطقة الحدوديّة طيلة ساعات الليل دون أن أعود إلى منزلي؛ خشية تطوّر الوضع، وقصف جسر الخردلي، وبالتالي عدم قدرتي على العودة إلى المنطقة.
في اليوم التالي للعدوان، كان واضحاً أنّ الأمور ذاهبة إلى التصعيد، وأنّني لا يمكن أن أترك المنطقة الحدوديّة مكان عملي، فعمدت إلى شراء ملابس؛ لأنني كنت ما زلت أرتدي “البيجاما”، ثمّ بدأت أبحث عن مكان آمن، فلا يمكنني أن أبقى في أماكن مستهدفة من قبل العدو بهدف تأمين أكبر قدر من الحركة في العمل.

صمود رغم النيران
كثيرة هي المشاهدات التي مرّت خلال 33 يوماً من العدوان. أبرزها مشهد دبابات الميركافا المحترقة في سهل الخيام. وهذا يختصر انتصار المقاومة وهزيمة آلة الحرب الإسرائيليّة، مضافاً إلى حالة الصمود والصور التي شاهدها الناس، وما زالوا يتداولونها إلى يومنا هذا، ومنها مشهد المرأة التي تحمل سكّيناً وتحضّر الزيت المغلي، ومشهد النساء اللواتي يخبزن على الصاج في الطريق، والأطفال الذين يلهون بالدراجات الهوائيّة، وهم يردّدون: “يا نصر الله يا حبيب.. دمّر دمّر تل أبيب”، في بلدة كفركلا الحدودية التي لم يستطع العدو دخولها طيلة فترة الحرب.

مع المجاهدين واللّقاءات الخاطفة
كانت حركة التنقّل في المنطقة الحدوديّة صعبة جدّاً. لذا، كانت ظروف التغطية الإعلاميّة معقّدة، وتعتمد على اغتنام فرص عدم وجود طائرات في الأجواء، وتقطّع القصف المدفعي. فكنت أستغلّ هذه الأوقات لألتقي بعض المجاهدين للحصول على المعلومات ولأستطلع مجمل الأجواء، ثمّ سرعان ما أغادر أماكن وجودهم؛ حتّى لا تتسبّب حركتي بانكشافها، وبالتأكيد كانت لهذه الزيارات الخاطفة الكثير من النتائج المعنويّة التي استمددتها من عظيم صمود المقاومين وإرادتهم في مقارعة العدو بمعنويّات مرتفعة في ظلّ قيام العدوّ بتدمير ممنهج لكلّ مظاهر الحياة في القرى والبلدات الجنوبيّة.

الكاميرا تنقل الخبر رغم الصعوبات
الظروف الصعبة خلال عدوان تموز كانت تشمل كلّ شيء، كان يمكن التغلّب على قلّة الطعام، وانقطاع الكهرباء والخطر المحدق بمكان المنامة ورداءة الاتّصالات، لكنّ التغطية الإعلاميّة كانت بحاجة إلى حركة دائمة للحصول على صورة، وهذا الأمر كان بطبيعة الحال، الشغل الشاغل في ظلّ تحليق متواصل للطيران التجسّسي مضافاً إلى صعوبة إرسال المواد المصورة، حيث كنت أسير كيلو مترات طويلة لأسلّم فيلم التصوير إلى أحد يوصله إلى بيروت.

عندما تضع الكاميرا جانباً
صادفتنا، خلال حرب الـ 33 يوماً، أحداث إنسانيّة كثيرة فرضت علينا أن نكون مسعفين أحياناً، وأحياناً أخرى جعلتنا مساهمين في إيصال موادّ غذائيّة وخبز وأدوية عند دخولنا إلى بعض القرى الحدوديّة. وهذا لا يتناقض مع العمل الإعلامي، والغلبة دائماً هي للجانب الإنساني إذا ما تعارض الموقفان في مكان ما.

ربطات الخبز
أثناء تمركزي قرب ثكنة مرجعيون وتصوير القصف على سهل الخيام، وصلت آلية للدرك حيث كنتُ، وكانت تحمل مئات “الربطات” من الخبز، فقلت لهم إنّي ذاهب إلى قرية بليدا لتصوير الأضرار، وفي كل الأحوال يشكل ذلك مخاطرة، فأعطوني خبزاً لأوصله معي إلى هناك. وبالفعل أخذت ما يقارب الثمانين ربطة خبز، لكنّي فرحت عندما وصلت إلى بليدا، ووجدتها لا تحتاج إلى الخبز؛ لأن أحد أفرانها ما زال يعمل، ثمّ توجهت إلى بلدة عيترون وقمت بزيارة العائلات المجتمعة في أماكن تحت الأرض، وكانت فرحتهم كبيرة عندما رأوا الخبز بين أيديهم. حينها شعرت بأنّي قد حقّقتُ إنجازاً.

لم تكتمل فرحتي بزيارة هذه العائلات؛ بسبب أصوات المدافع والغارات الجويّة التي كانت تستهدف الجهة الغربيّة للبلدة، ومنطقة مربع الصمود في بنت جبيل؛ لأنّ مشهداً قطع قلبي، لقد التقيت امرأة تحمل طفلين وتركض باتجاهي قاطعة وسط حقلٍ، وهي تبكي وتصرخ مع طفليها، وقالت لي: “أرجوك، خذنا معك من هنا، لم أعد أحتمل الخوف على مصير طفليّ”، فأجبتها: “إلى أين آخذكم؟ فأوصال المنطقة مقطّعة ولا يوجد مكان آمن، ويوجد خطر على الطريق، وإنْ أصابكم مكروه سأتحمّل أنا المسؤولية”، عندها زاد بكاؤها وجلست على الأرض وتمسّكت بثيابي وكرّرت رجاءها. ولشدّة وقساوة المشهد جلست على التراب بقرب طفليها ولم أتمالك نفسي على حال هذه العائلة التي كانت تعيش في كندا وزوجها عالقٌ في بيروت، ثمّ حضرت سيارة كانت تقلُّ راكبَين في الوقت الذي لم يكن يجرؤ أحد على قيادة سيارة، ولم أعرف من أين أتت!! كلّ ما أذكره أنّ الله أنجاني من مسؤوليّة لا أدري نتائج تحمّلها، ونُقلت العائلة إلى جهةٍ أجهلها”.

الله في 33 يوماً
عندما أطلق على هذا النصر اسم “النصر الإلهي”، ثلاثة كان نصراً إلهيّاً بحقّ. عندما تُقصف بلدة الخيام مثلاً، بآلاف القذائف ومئات الغارات الجويّة، وتدمّر أبنيتها ومنازلها بشكل كامل، وهي تعجّ بالمقاومين، ولا يستشهد منهم إلّا مجاهد واحد على امتداد 33 يوماً، وعندما يُطلب من قائد الكتيبة الإسرائيليّة في مستعمرة المطلّة، أنْ يقتحم الخيام بعد تدميرها، ويقول لقائده: “تعالَ أنت واقتحمها”، أليس هذا فعلاً إلهيّاً؟!

شحنة معنويّة من والدة شهيد
في اليوم الأول لوقف إطلاق النار، بعد 33 يوماً من العدوان، كنتُ في حالة يُرثى لها، مثل كلّ الذين صمدوا خلال العدوان. كنت أغطّي عودة بعض المهجّرين في بلدة العديسة حيث بقايا الحمّالات الإسرائيليّة، والحرامات والأمصال وبقع دماء الجنود الصهاينة وجنازير الدبابات في مكان إحدى المواجهات حين ترجّلت والدة أحد الشهداء، الذين ارتقوا في هذا العدوان، من السيارة التي كانت فيها، ألقت السلام عليّ والدموع في عينيها، ثم قبّلت كتفي، وقالت: “بارك الله فيك يا حاج علي، كنّا ننتظرك في كل لحظة لتحدّثنا بكل جديد، وكنت خير من نقل أخبار انتصارات أولادنا ورسائلك صدى لصواريخ الشباب، فكنت الوصف الصادق لإنجازات رجال الوعد الصادق”.
عندها أدركت أنّني حقّاً كما كنت آمل أن أكون، وساهمت في بعض من الإنجاز الإعلامي الذي كان جزءاً لا يتجزّأ من هذه الحرب، وشعرت بعد مقالتها هذه أنّ كل التعب والعناء قد زالا، وأنّ شحنة معنويّة زادتني قوة، أستطيع بعدها العمل مدّة 33 يوماً أخرى.

قبل تموز ليس كما بعده
بعد هذه الحرب، لن يكون الإنسان كما قبلها، على الرغم من التجارب السابقة في التغطية، إبّان الاحتلال وتغطية عدوانَيْ تموز 1993م، ونيسان 1996م، فالتجارب والصعوبات المهنيّة القاسية، وتطوّر الروح المعنويّة المستمدة من مشاهد الصمود للمقاومين ولشعب المقاومة، وحجم القدرة العسكريّة الإسرائيليّة المنكسرة وعظمة الانتصار، أكسبتني تجربة هي الأروع في حياتي المهنية، على الرغم من مراحلها المريرة.

Check Also

داعش خراسان

داعش خراسان.. أضعف مما تبدو للعلن

السياسة – شفقنا العربي: منذ العملية الانتحارية التي استهدفت مطار كابول الدولي في أغسطس عام …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *