یکاد یجمع علماء المسلمین على وجود الشفاعة وأنها تنال المؤمنین.. لکن بعضهم ناقش فی سعة المفهوم وضیقه، ففیما یجمع أغلب أئمة الفرق والمذاهب الاِسلامیة على أنّ الشفاعة تنفع فی دفع الضرر والعذاب …
أولاً : آراء وأقوال العلماء حول مفهوم الشفاعة :
1 ـ قال الشیخ المفید محمد بن النعمان العکبری (ت 413 هـ) :
«إتفقت الاِمامیة على أنّ رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم یشفع یوم القیامة لجماعة من مرتکبی الکبائر من أُمته، وأنّ أمیر المؤمنین علیه السلام یشفع فی أصحاب الذنوب من شیعته، وأنّ أئمة آل محمد علیهم السلام کذلک، وینجی الله بشفاعتهم کثیراً من الخاطئین» .
وقال فی مکان آخر : «ویشفع المؤمن البرّ لصدیقه المؤمن المذنب فتنفعه شفاعته ویشفّعه الله . وعلى هذا القول إجماع الاِمامیة إلاّ من شذّ ه منهم» (1)
2 ـ وقال الشیخ محمد بن الحسن الطوسی (ت 460 هـ) فی تفسیره (التبیان) : «حقیقة الشفاعة عندنا أنْ تکون فی إسقاط المضار دون زیادة المنافع، والمؤمنون عندنا یشفع لهم النبی صلى الله علیه وآله وسلم فیشفّعه الله تعالى ویسقط بها العقاب عن المستحقین من أهل الصراط لما رُوی من قوله علیه السلام : «إدّخرتُ شفاعتی لاَهل الکبائر من أُمتی» .
« والشفاعة ثبتت عندنا للنبی صلى الله علیه وآله وسلم وکثیر من أصحابه ولجمیع الاَئمة المعصومین وکثیر من المؤمنین الصالحین…» (2)
3 ـ وقال العلاّمة المحقق الفضل بن الحسن الطبرسی (ت 548 هـ ) :
«… وهی ثابتة عندنا للنبی صلى الله علیه وآله وسلم ولاَصحابه المنتجبین والاَئمة من أهل بیته الطاهرین علیهم السلام ولصالحی المؤمنین وینجّی الله بشفاعتهم کثیراً من الخاطئین..» (3)
4 ـ ویقول العلاّمة الشیخ محمدباقر المجلسی (ت 1110 هـ) :
«أما الشفاعة فاعلم أنّه لا خلاف فیها بین المسلمین بأنّها من ضروریات الدین وذلک بأنّ الرسول یشفع لاُمته یوم القیامة، بل للاُمم الاُخرى، غیر أنّ الخلاف هو فی معنى الشفاعة وآثارها، هل هی بمعنى الزیادة فی المثوبات أو إسقاط العقوبة عن المذنبین ؟
والشیعة ذهبت إلى أنّ الشفاعة تنفع فی إسقاط العقاب وإن کانت ذنوبهم من الکبائر، ویعتقدون بأنّ الشفاعة لیست منحصرة فی النبی صلى الله علیه وآله وسلم والاَئمة علیهم السلام من بعده، بل للصالحین أن یشفعوا بعد أن یأذن الله تعالى لهم بذلک…»(4)
ما تقدم کان نماذج من أقوال علماء الشیعة الاِمامیة حول الشفاعة معنىً وحدوداً، أما علماء المذاهب الاِسلامیة الاُخرى فقد أقرّوا بالشفاعة والاِیمان بها، وننقل فیما یلی نماذج من آراءهم وأقوالهم .
1 ـ الماتریدی السمرقندی (ت 333 هـ) :
عند تفسیره لقوله تعالى : ( وَلا یُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ )(5)، وقوله تعالى: (وَلا یَشْفَعُونَ إلاّ لِمَنْ ارْتَضَى.. ) (6)
«إنّ الآیة الاُولى وإن کانت تنفی الشفاعة، ولکن هنا شفاعة مقبولة فی الاِسلام وهی التی تشیر إلیها هذه الآیة» (7) ویقصد بها الاَیة 28 من سو رة الاَنبیاء .
2 ـ أبو حفص النسفی (ت 538 هـ) :
یقول فی عقائده المعروفة بـ (العقائد النسفیة) : «الشفاعة ثابتة للرُسُلِ والاَخیار فی حق الکبائر بالمستفیض من الاَخبار» (8)
3 ـ ناصر الدین أحمد بن محمد بن المنیر الاسکندری المالکی :
یقول فی الانتصاف «وأما من جحد الشفاعة فهو جدیر أن لا ینالها، وأما من آمن بها وصدّقها وهم أهل السُنّة والجماعة فاُولئک یرجون رحمة الله، ومعتقدهم أنّها تنال العصاة من المؤمنین وإنّما ادُخرّت لهم…» (9)
4 ـ القاضی عیاض بن موسى (ت 544 هـ) :
«مذهب أهل السُنة هو جواز الشفاعة عقلاً ووجودها سمعاً بصریح الآیات وبخبر الصادق، وقد جاءت الآثار التی بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة فی الآخرة لمذنبی المؤمنین، وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السُنة علیها…»(10)
وقد ذهب الکثیر من علماء المسلمین إلى حقیّة وجود الشفاعة مما لایسع فی هذا البحث الموجز حصره من أقوالهم وآرائهم لضیق المجال .
ویتضح مما تقدم، أنّ الشفاعة ـ واعتماداً على نصوص القرآن الکریم الصریحة والاَحادیث الشریفة المتواترة المنقولة عن النبی الاَکرم محمد صلى الله علیه وآله وسلم وأئمة أهل البیت علیهم السلام ـ هی من القضایا المقبولة عند أغلب الفرق والمذاهب الاِسلامیة، مع وجود من یناقش فی معنى الشفاعة، فقد رفض المعتزلة الشفاعة وناقشوا فیها.. حیثُ یقول أحد أعلامهم وهو أبو الحسن الخیاط وهو یفسر قوله تعالى : ( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَیْهِ کَلِمَةُ العَذَابِ أفأنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فی النَّارِ… ) (11) : «اِنّ الاَیة تنص على أنّ من استحق العذاب لا یمکن للرسول أن ینقذه من جهنم..» وفی ردّ ذلک یقول الشیخ المفید رضی الله عنه : «إنّ القائلین بالشفاعة لا یدّعون بأنّ الرسول هو المنقذ للمستحقین النار وإنّما الذی یدّعونه إنّ الله سبحانه ینقذهم منها إکراماً لنبیّه والطیبین من أهل بیته علیهم السلام .
هذا من جهة، ومن جهة اُخرى، فإنّ المفسرین یذهبون إلى أنّ الذین حقت علیهم کلمة العذاب هم الکفار، وإنّ النبی صلى الله علیه وآله وسلم لا یشفع لهم»(12) ومن هنا یکون هذا الاِحتجاج بالآیة الشریفة الآنفة على نفی الشفاعة احتجاجاً غیر صحیح .
ثانیاً : إشکالات وردود :
مع وضوح الشفاعة کمفهوم ثابت فی القرآن الکریم، فإنّ تطوّر المسائل الکلامیة عند المسلمین أدّت إلى أن یثور الجدل حول هذا المفهوم من جوانب متعددة، ومن ثم إیراد الاِشکالات علیه، وهی إشکالات تنبع عادة من خلال الثوابت التی یؤمن بها کل فریق من الفرق الاِسلامیة التی ناقشت هذا المفهوم .
ونورد أهم الاِشکالات التی أُثیرت هنا ثم نناقشها ونبیّن بطلانها وفسادها وکما یأتی :
الاِشکال الاَول :
إنّ (نفس الذنب) الذی قد یرتکبه المؤمن یرتکبه الکافر، وإنّ الله سبحانه وتعالى قد وضع سُنّة العقاب والثواب جزاءً لاَفعال عباده، وإنّ رفع العقاب عن المؤمنین المذنبین بواسطة الشفاعة، وإنزالهِ على غیرهم من الکافرین، مُخلّ بعدالته (سبحانه وتعالى عن ذلک عُلّواً کبیراً) وهذا الاِشکال یمکن أن نسمیه بـ «مشکلة الاثنینیة فی الجزاء مع وحدة الذنب».
والجواب علیه :
لابدّ من بیان : هل الذنب من المؤمن والکافر واحد ؟ وهل أنّ قبول الله لشفاعة الشافعین بالمؤمن المذنب وحرمان الکافر منها اثنینیة فی الجزاء أم لا ؟
لا ریب أنّ الذنب من أی شخص ولاَی شخص کان یقتضی استحقاق الذم والعقاب، کما أن الاِطاعة من أی شخص کان ولاَیّ شخص کانت تقتضی الثواب والمدح، وإلاّ لم یبق فرق بین المطیع والعاصی .
إلاّ أنّ الله سبحانه فرّق ـ وکلامنا فعلاً فی المعصیة ـ بین ما إذا کانت من مؤمن به، وما إذا کانت من کافر، فجعل الشفاعة للمؤمنین العصاة کما فتح لهم باب التوبة، وأمّا الکافرون فإنّ نیلهم الشفاعة أو قبول التوبة من الذنوب معلّق على أصل الاِیمان بالله عزَّ وجل.. تماماً کالحسنات، فإنّهم ما لم یؤمنوا لا یثابون علیها أبداً .
فصحیحٌ أنّ «الکذب» مثلاً الصادر من المؤمن والصادر من الکافر واحد، إلاّ أنهما یختلفان حکماً، وقد دلّت على هذا الاختلاف الاَدلة الواردة من قِبَل نفس المولى الذی اعتبر الکذب معصیةً له، وهی الاَدلة التی فرّقت بین المؤمن والکافر .
فهذا الاِشکال إنّما نشأ ـ فی الحقیقة ـ من توهّم وحدة الذنب، وقد بیّنا أنّه یختلف ویتعدد باختلاف صاحب الذنب، وبهذا اللحاظ یختلف الحکم بجعل من المولى نفسه .
إنّ القرآن الکریم، فی آیاته الشریفة، قد صنّف موقف الناس یوم القیامة إلى عدة أصناف، فهناک مؤمنون، وهناک کافرون .
والکافرون هم أولئک الذین لم یؤمنوا بالله فی الحیاة الدنیا أو أشرکوا بعبادته أحداً، ومثل هؤلاء لا تنالهم الشفاعة بصریح القرآن : ( .. أم اتَّخَذّوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أوَلَوْ کَانُوا لا یَملکُونَ شَیئَاً وَلا یَعْقِلُونَ.. )(13)
أو قوله تعالى : (… وَالَّذِینَ کَفَرُوا أوْلِیاؤهُم الطَّاغُوتُ یُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إلى الظُلُمَاتِ أُولئکَ أصْحَابُ النَّارِ هُم فِیهَا خَالِدُونَ.. ) (14) . ووا ضح ان الخلود فی النار یتنافى مع مفهوم الشفاعة..
کما نجد آیات أُخرى تؤکد على ذلک .
إنّ ما قرّره الله سبحانه وتعالى من جزاء للمؤمنین والکافرین هی من مختصاته سبحانه وتعالى، وإنّ الوعد بالثواب للمؤمنین والوعید بالعقاب للکافرین والمشرکین هو أمر ثابت لا یتخلف عنه الحکم الاِلهی، حیثُ لم ترد فی کلِّ القرآن الکریم آیة واحدة تدّل على أنّ للکافرین فرصة لنیل الشفاعة یوم القیامة بل هم خالدون فی النار .
ومن هنا فإنَّ حرمان الکافرین من الشفاعة یوم القیامة لیس تخلفاً عن الحکم الالهی، بل هو وفاء للوعید الذی سبق أنْ أخبر به الله سبحانه وتعالى الکافرین على لسان أنبیائه ورُسله .
أما المؤمن فإنّه قد فتح له باب التوبة، فقد یرتکب ذنباً «فیتوب منه»، وتوبته تصحُّ بالندم على ارتکاب الفعل وبالتالی ترکه وعدم العودة إلیه ؛ لاَنّ الندم على ارتکاب الذنب یستدعی ترک العودة إلیه، وإلاّ فإنّ العودة إلى الذنب تعنی الاِصرار علیه، فإذا مات مذنباً أمکن أن یغفر له بالشفاعة التی وعدها الله للمؤمنین، وعلى هذا الاَساس یکون قبول الشفاعة فی المؤمنین المذنبین وعدم قبولها فی الکافرین، وفاء للوعد الاِلهی الذی جاء على لسان الاَنبیاء والمرسلین .
وهنا نقدم نماذج من القرآن الکریم لکلٍّ من الوعدین :
قوله تعالى : ( إنّ الَّذِینَ کَفَرُوا وَماتُوا وَهُم کُفّارٌ أُولئِکَ عَلَیهِم لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلائکَةِ وَالنَّاسِ أجمعِینَ * خَالِدِینَ فِیهَا لا یُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلا هُم یُنظَرُونَ ) (15)
وقوله تعالى : (… وَمَنْ یَرْتَدِدْ مِنْکُم عَنْ دِینِهِ فَیَمُتْ وَهُوَ کَافِرٌ فَأُوْلئِکَ حَبِطَتْ أعْمَالُهُم فِی الدُّنْیَا وَالآخِرَةِ وأُوْلَئِکَ أصحَابُ النَّارِ هُم فِیهَا خَالِدُونَ..)(16)
وهاتان الآیتان توضحان بجلاء حقیقة الوعد الاِلهی لمن مات وهو کافر، وهو الخلود فی النار، ومعلوم أنّ الخلود فی النار یتناقض تماماً مع مفهوم الشفاعة .
وقوله تعالى : ( إنَّمَا التَوْبَةُ عَلَى اللهِ لَّلذِینَ یَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةِ ثُمَّ یَتُوبُونَ مِنْ قَرِیبٍ فأولئک یَتُوبُ اللهُ عَلَیهم ) (17)
وقوله تعالى : (.. فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلمِهِ وأصْلَحَ فإنَّ اللهَ یَتُوبُ عَلَیهِ إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحیْمٌ ) (18)
وهناک آیات کثیرة أُخرى تحدثت عن التوبة .
وبعد هذه الشواهد نقول ردّاً على الاِشکال المتقدم، إنّ الاثنینیة فی الجزاء إنّما جاءت بتبع الاِثنینیة فی الذنب، ویتلخص الجواب فی عدم الوحدة فی الذنب، فإنّ المولى قرّر وأخبر منذ البدء عن الفرق فی تعامله بین المؤمن والکافر بالنسبة إلى الذنوب الصادرة منهما، وعلى أساس ذلک کان الکافر محروماً من الشفاعة فی الآخرة بخلاف المؤمن فقد تناله، کما تقبل التوبة من ذنوبه إذا تاب . فکان جزاء کلٍّ منهما فی الآخرة مطابقاً لما قرّره وأخبر به الناس على لسان الاَنبیاء وأوصیائهم علیهم السلام .
وقد ورد عن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم أنّ شفاعته لا تنال من أشرک بالله عزَّ وجل وإنها تنال غیر المشرکین، فقد روى أبو ذر أنّ رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم صلّى لیلة فقرأ آیة حتى أصبح، یرکع بها ویسجد بها : ( إنّ تعذّبهُم فإنّهُم عِبَادُک وإن تَغفر لهُم فإنک أنتَ العزیزُ الحکیم ) (19)، فلما أصبح قلت : یا رسول الله مازلت تقرأ هذه الآیة حتى أصبحت ترکع بها وتسجد بها، قال صلى الله علیه وآله وسلم : «…إنی سألت ربی عزَّ وجل الشفاعة لاُمتی فأعطانیها فهی نائلة إن شاء الله لمن لا یشرک بالله عزَّ وجل شیئاً »(20)
وروی عن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم قوله : «شفاعتی لمن شهد أنْ لا إله إلاّ الله مخلصاً یصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه..»(21)
الاِشکال الثانی :
إنّ رفع العقاب عن المذنبین یوم القیامة بعد أن أثبته الله بالوعید به «أی العقاب» یوم القیامة إما أن یکون عدلاً أو یکون ظلماً .
فإن کان رفع العقاب عدلاً کان الحکم بالعقاب ظُلماً «تعالى الله عنه علواً کبیراً» .
وإن کان رفع العقاب ظلماً، فإنّ طلب الاَنبیاء والمرسلین والصالحین للشفاعة، هو طلبٌ للظلم وهذا جهلٌ لا تجوز نسبته إلیهم علیهم السلام وهم المرسلون الذین عصمهم الله من الخطأ والزلل .
والجواب علیه :
وهو إشکالیة التعارض بین أن یکون رفع العقاب (عدلاً) فالعقوبة الناتجة عن الذنب (ظلمٌ) لا یجوز على الله سبحانه وتعالى، وبین أن یکون رفعه (العقاب) ظلماً ـ بعد أن تقدّم الوعید به فی الحیاة الدنیا ـ فإنّ طلب الاَنبیاء أو الشفعاء بشکل عام، یُعّدُ طلباً للظُلم، وهم أبعد وأسمى من ذلک .
قد ذکرنا أنّ الذنب من المؤمن لیس علةً تامةً لوقوع العقاب علیه، وإنّما هو مقتضٍ للعقاب، فإن حصل هناک ما یمنع من وقوعه من الموانع التی قررّها المولى نفسه کالتوبة والشفاعة ارتفع العقاب، وإلاّ أثّر الذنب أثره .
وقد ورد عن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم قوله : «إذا قمتُ المقام المحمود تشفّعتُ فی أصحاب الکبائر من أُمتی فیشفّعنی الله فیهم، والله لا تشفعّت فیمن آذى ذریتی»(22)
وعلى هذا، فإنّ عقاب الله سبحانه للعبد المؤمن المذنب عین العدل، کما أنّ إعطاء الثواب للعبد المؤمن المطیع عین العدل، فلولا استحقاق العاصی للعقاب لم یبق فرق بینه وبین المطیع، إلاّ أنّ هذا الاستحقاق قد لا یصل إلى مرحلة الفعلیة لتحقق مانع عنها کالشفاعة والتوبة .
وبهذا اتضح عدم التنافی بین قانون العدل الاِلهی، وقانون الشفاعة .
وحاصل ذلک : إنّ «الشفاعة» ماهی إلاّ «فضل ورحمة من الله» جعلها عزَّ وجل للمؤمنین، وبها وقع الفصل بین المؤمن والکافر، غیر أنها «رحمة» منه، وأی تعارض بین «الرحمة» و «العدل» ؟
إنّ الوعد الاِلهی بقبول الشفاعة بحق بعض عباده یختص باُولئک الذین حددهم بصورة عامة داخل دائرة ومساحة الاِیمان به وکتبه ورسله .
ومن هنا فإنّ رفع العقوبة عن المؤمن المرتکب للذنب هو نوع من التفضّل الاِلهی على عبادهِ المؤمنین .
قال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم : «خُیرّت بین الشفاعة وبین أن یدخل نصف أُمتی الجنّة فأخترت الشفاعة لاَنّها أعم وأکفى أترونها للمتقین ؟ لا، ولکنّها للمذنبین الخطائین المتلوّثین» (23)
وقال الاِمام الحسن علیه السلام : «إنّ النبی قال فی جواب نفر من الیهود سألوه عن مسائل : وأما شفاعتی ففی أصحاب الکبائر ماخلا أهل الشرک والظلم»(24)
أما إنزال العقاب على المشرکین والکافرین فقد تقدّم بها الوعید الاِلهی، ومن هنا فأن الاَنبیاء والاَوصیاء والذین ارتضى سبحانه وتعالى شفاعتهم، لا یشفعون أصلاً فی الکافرین أو المشرکین أو الذین وعد الله سبحانه وتعالى بخلودهم فی جهنم، ویتضّح من هذا الرد أننا أمام صنفین من الناس، صنف آمن وأذنب.. وصنف کفر وأشرک، ومن هنا فإنّ افتراض أن یطّرد الجزاء وینطبق من ناحیة «الهویة» على الصنفین معاً هو افتراض غیر صحیح .نعم الاِشکال یرد فیما لو تمّ رفع العقاب عن فرد من الصنف الاَول ولم یُرفع عن فرد آخر من نفس الصنف مع أنهما متساویان فی الصفات تماماً .
هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإنّ «وقوع الشفاعة وارتفاع العقاب.. وذلک إثر عدّة من الاَسباب، کالرحمة والمغفرة والحکم والقضاء وإعطاء کلّ ذی حق حقه، والفصل فی القضاء، لا یوجب اختلافاً فی السُنّة الجاریة وضلالاً عن الصراط المستقیم»(25)
الاِشکال الثالث :
إنّ الشفاعة المعروفة لدى الناس هی : أن یدعو المشفوع عنده إلى فعل شیء أو ترک الفعل الذی حکم به على المشفوع له، وهذا أمرٌ لا یمکن حصوله، إلاّ إذا حدث للمشفوع عنده عِلمٌ جدید یوجب عنده قبول الشفاعة فی المشفوع له، أو أنّه ینصرف عن إجراء الحکم الذی قرره رعایة للشفیع ومنزلته عنده ولو کان على حساب الحق والعدل والاِنصاف، وهذه افتراضات لا یجوز نسبتها إلى الله (تعالى عن ذلک علّواً کبیراً) .
والجواب علیه :
فهو افتراض باطل من أساسه، لاَنّ الفعل الذی قررّه سبحانه وتعالى ـ وهو العقاب ـ لم یکن أثراً غیر قابل للانفکاک عن «الذنب»، لما تقدّم من أنّ الذنب لیس إلاّ مقتضیاً للعقاب، فالشفاعة ـ بعد أنْ کان الذنب مجرد مقتضٍ للعقاب ـ تقدّم الوعد بها، وأثبتها القرآن الکریم بصورها وحدودها ومواصفات أشخاصها، لا تمثل عند قبولها انصرافاً عن الفعل الذی قرره سبحانه وتعالى، بل هی وفاءٌ لما قرره بحق عباده، وهی بعد هذا لا توجب معنى حصول علم جدید بعد أن تقدم العلم بها حتى ذکرها سبحانه وتعالى وأوضح الطریق والباب الذی یمکن للمؤمنین المذنبین أن یلجوه وصولاً إلى رضوانه تعالى .
هذا من جهة، ومن جهة ثانیة، فإنّ الله سبحانه وتعالى قد سبق فی علمه، مصائر عباده وحالهم فی الدنیا والآخرة، وبعد هذا العلم الشامل، فلیس فی قبول الشفاعة علم جدید یحصل عنده، (تعالى عن ذلک علّواً کبیراً..) .
ویتضح ذلک من قوله تعالى : (.. یَمْحُو اللهُ مَّا یَشَاءُ وَیُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أمُّ الکِتَابِ )(26)
ویقول العلاّمة الطباطبائی قدس سره : «.. نعم تغیّر العلم والاِرادة المُستحیل علیه تعالى هو بطلان انطباق العلم على المعلوم والاِرادة على المراد مع بقاء المعلوم والمراد على حالهما، وهو الخطأ والفسخ، مثل أن ترى شبحاً فتحکم بکونه إنساناً ثم یتبیّن أنّه فرس فیتبدل العلم، أو ترید أمراً لمصلحة ما ثم یظهر لک أنّ المصلحة فی خلافهِ فتنفسخ إرادتک، وهذان غیر جائزین فی مورده تعالى، والشفاعة ورفع العقاب بها لیس من هذا القبیل کما عرفت»(27)
الاِشکال الرابع :
إنّ معرفة الناس بثبوت الشفاعة لمن أذنب بواسطة الاَنبیاء والصالحین یخلق عندهم الجرأة على ارتکاب الذنب على أمل نیل الشفاعة منهم یوم القیامة .
وهذا الاَمر سیؤدی إلى عبثیة الاَحکام المتعلقة بالجزاء حیثُ سیضطرب النظام الاِجتماعی ویشیع الفساد فی الناس وتنتهک أحکام الله التی وضعها لعبادهِ .
والجواب علیه :
إنَّ مشکلة هذا الاِشکال وضعفه : هو أنّه تجاهل ظاهرة مهمة فی الآیات القرآنیة التی تناولت بصورة مباشرة موضوع الشفاعة وقبولها، وکذلک الآیات التی تحدثت عن خلود الکافرین فی النار.. وهذه الظاهرة هی : إنّ آیات الشفاعة لم تُعیّن على سبیل التحدید أفراد النّاس ومجامیعهم ممن تنالهم الشفاعة، کما أنّها لم تُعیّن الذنوب التی تُقبل الشفاعة فیها..
فإذا کان الاَمر کذلک، فکیف تطمئن نفسٌ أن تنالها الشفاعة، وکیف تطمئن أیضاً إلى أن ذنبها الذی ترتکبه هو من الذنوب التی تقبل بها الشفاعة .
ومن هنا فإنّ النفس والحال هذه ستبقى متعلقة، وجلةً تتملکها الخشیة من ارتکاب الذنب والمعصیة خوفاً أن لا تکون ممن تنالها الشفاعة، أو أن یکون ذنبها مما لا تقبل فیه الشفاعة .
الآیات الشریفة التی تحدثت عن الکافرین وخلودهم فی النار وأنواع العذاب، وعدم غفران ذنوبهم، فإنها شخّصت الاطار العام للصفات والافعال التی إذا تمیّز بها الاِنسان فإنّه یدخل النار، ومن ذلک على سبیل المثال قوله تعالى : ( إنَّ اللهَ لا یَغفِرُ أنْ یُشرَکَ بِهِ وَیَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِکَ لِمَنْ یَشَآءُ )(28)
والآیة کما ترى تتحدث عن المغفرة یوم القیامة، وأنّها لا تنال الذین ماتوا وهم مشرکون .
وعلى هذا فکیف تکون الشفاعة موجبة لجرأة الناس على الذنوب والمعاصی ؟ مع أنّ ارتکاب الذنب من قبل المؤمن لابدّ أن تعقبه التوبة طلباً للغفران.. لاَنّ هذه صفة المؤمن بالله تعالى والیوم الآخر، فإنه دائماً یراقب نفسه لئلا یقع فی معصیة، فإنْ استولى علیه الشیطان وأغواه وارتکب المعصیة تذکّر وتاب إلى الله توبةً نصوحاً فضلاً عن أن یصرّ على الذنب الواقع منه .
فالاِیمان لیس لوناً نضفیه على الاِنسان، بل هو یتجسد فی المحتوى الداخلی للاِنسان وعلاقته بربه وسلوکه الاِجتماعی المنضبط بأوامر الله سبحانه وتعالى ونواهیه .
ولعل ما یشیر إلى ذلک الآیة الشریفة : ( وَالَّذینَ إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أنفُسَهُم ذَکَرُوا اللهَ فاستَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم وَمَن یَغفِرُ الذنُوبَ إلاّ اللهُ وَلَم یُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُم یَعلَمُون )(29)
فالآیة القرآنیة هنا تتحدث عن صنفٍ من الناس حددت طبیعة سلوکهم ولم تعیّن أشخاصهم.. کما أنّها لم تحدد نوع الفاحشة أو الظُلم.. ولکنها تشیر إلى أنّهم بعد ارتکابهم الظلم والفاحشة یذکرون الله ویستغفرون لذنوبهم وأنّهم لا یُصرّون علیها.. هؤلاء الناس یغفر الله ذنوبهم، ولولا الاستغفار لما نالوا هذا الوعد الاِلهی بغفران ذنوبهم .
وإلى ذلک یشیر الحدیث الشریف، فعن علی بن ابراهیم، عن محمد ابن عیسى، عن یونس، عن عبدالله بن سنان، قال : سألت أبا عبدالله علیه السلام عن الرجل یرتکبُ الکبیرة من الکبائر فیموت هل یُخرجه ذلک من الاِسلام ؟ وإن عُذّب کان عذابه کعذاب المشرکین، أم له مُدّة وانقطاع ؟ فقال علیه السلام : «من ارتکب کبیرة من الکبائر فزعم أنّها حلال أخرجه ذلک من الاِسلام وعذّب أشدّ العذاب، وإن کان مُعترفاً أنّه أذنب ومات علیه ـ أی مصرّاً على الذنب ـ أخرجه من الاِیمان ولم یخرجه من الاِسلام وکان عذابه أهون من عذاب الاَول» (30)
الاِشکال الخامس :
إنّ العقل قد یحکم بإمکانیة وقوع الشفاعة بالاِفادة من آیات القرآن الکریم، ولکنه لا یستطیع أن یحکم بفعلیة وقوعها خصوصاً وأنّ فی القرآن ما ینفی الشفاعة مطلقاً کقوله تعالى : (.. لا بیعٌ فیه ولا خلّة ولا شفاعة ) (31)، وبعضها الآخر یقیّد الشفاعة بقیود کما فی قوله تعالى: (إلا بِإذنِهِ..) (32)، وقوله تعالى (.. اِلاّ لِمَنْ ارْتَضَى.. ) (33)، ولکن هذه الآیات وغیرها لا تدل دلالة قطعیة على وقوع الشفاعة وحصولها الیقینی، فالقرآن الکریم ینفی الشفاعة آونة، ویقیّدها أُخرى برضا الله سبحانه وتعالى، ویذکر القرآن الکریم مرة اُخرى أنّ الشفاعة لا تنفع، کقوله تعالى (… فَمَا تَنْفَعُهُمُ شَفَاعَةُ الشَّافِعِینَ ) (34)
والجواب علیه :
إنّ ملخص الجواب هو أنّ الآیات التی یُستدل بها على نفی الشفاعة، لا تنفی الشفاعة مطلقاً، بل إنّها تنفیها عن بعض الناس وقد وردت هذه الاستثناءات فی آیات عدیدة .
أما فیما یتعلق بالقیود الموجودة فی حصول الشفاعة من جهة، وقبولها من جهة أخرى، فإنّ ذلک لا یعنی نفیها بل یؤکد وقوعها واثباتها، على خلاف ما ادّعاه النافون من أنّها لا تنفع، مُستدلیّن على ذلک، بقوله تعالى: ( فَمَا تَنفَعُهُم شَفَاعَةُ الشَّافِعِینَ )(35)
وهذا الاستدلال غیر صحیح ؛ لاَنّ سیاق الآیات التی تسبق هذه الآیة تتحدث کلّها عن المجرمین المستقرین فی سقر، حیثُ تقول الآیات :
(کُلُّ نَفسٍ بِمَا کَسَبَتْ رَهِینَةٌ * إلاّ أصحابَ الیمِین * فی جَنَّاتٍ یَتَسآءَلُونَ ) ثم تقول الآیات الشریفة : ( عَنِ الُمجرِمِینَ * مَا سَلَکَکُم فی سَقَر * قَالُوا لَم نَکُ مِنَ المُصَلِیّنَ * وَلَم نَکُ نُطعِمُ المِسکِینَ * وَکُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضِینَ * وَکُنَّا نُکَذِّبُ بِیَومِ الدِّینِ * حتَّى أتَانَا الیَقِینُ * فَمَا تَنفَعُهُم شَفَاعَةُ الشَّافِعِینَ )(36)
وهکذا یتضح من خلال هذا السیاق : إنّ الذین لا تنفعهم شفاعة الشافعین هم هؤلاء المستقرون فی سقر الذین لم یکونوا من المُصلّین، وکانوا یکذّبون بیوم الدین، حتى أتاهم الیقین حین وجدوا أنفسهم فی سقر فلا تنفعهم بعد صفاتهم تلک شفاعة الشافعین .
بعد هذا العرض السریع للاِشکالات التی یوردها النافون للشفاعة والردود علیها، یتضح أنّ الشفاعة لیست من الاُمور التی تقع ضمن دائرة الاثنینیة فی الجزاء الاِلهی، والمقصود بالاثنینیة «تعدد الجزاء مع وحدة الفعل» ولا هی متناقضة مع عدالة الله بل هی تثبیت لهذا العدل باعتبارها کانت وعداً تقدم والجزاء به هو وفاء لذلک الوعد .
کما أنّها لیست ناتجة عن علم جدید أو انصراف عن فعل مقرر من قبل، بل هی علم سابق وفعل مقرر، وهی أیضاً لا توجب الجرأة على المعصیة بل توجب الحیطة والحذر، والخشیة من ارتکاب الذنب، إذ لم تُصرح الآیات بجمیع الذنوب التی تقبل فیها الشفاعة .
وهی أخیراً ثابتة موجودة، لکنها لا تنال بعض الاَصناف من الناس الذین وردت صفاتهم فی القرآن الکریم، وأنّها لا تحصل إلاّ بإذن الله تعالى ورضاه .
قال الاِمام علی بن موسى الرضا علیه السلام عن آبائه الطیبین الطاهرین عن جدّه رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم قوله : «من لم یؤمن بشفاعتی فلا أناله شفاعتی ـ ثم قال صلى الله علیه وآله وسلم ـ إنّما شفاعتی لاَهل الکبائر من اُمتی فأما المحسنون فما علیهم من سبیل»، قال الحسین بن خالد : فقلتُ للرضا علیه السلام : یا بن رسول الله فما معنى قول الله عزَّ وجل : ( ولا یشفعون إلاّ لمن ارتضى ) (37) قا ل علیه السلام: «لایشفعون إلاّ لمن ارتضى الله دینه» (38)
المصادر :
1- أوائل المقالات فی المذاهب والمختارات، للشیخ المفید : 29 تحقیق مهدی محقق
2- التبیان، للشیخ الطوسی : 213 ـ 214
3- مجمع البیان فی تفسیر القرآن، للشیخ الطبرسی : 103
4- بحار الانوار، للشیخ المجلسی 8 : 29 ـ 63 .
5- البقرة 2 : 48 .
6- الانبیاء 21 : 28 .
7- تأویلات أهل السُنّة، لابی منصور الماتریدی السمرقندی : 148 .
8- العقائد النسفیة، لابی حفص النسفی : 148 .
9- الانتصاف فیما تضمّنه الکشاف من الاعتزال، للامام ناصرالدین الاسکندری المالکی المطبوع بهامش الکشاف 1 : 214 .
10- نقلاً عن : شرح صحیح مسلم، للنووی 3 : 35 .
11- الزمر 39 : 19 .
12- الشیعة بین الاشاعرة والمعتزلة، لهاشم معروف الحسنی : 212 ـ 213 نقلاً عن الفصول المختارة : 50 .
13- الزمر 39 : 43 .
14- البقرة 2 : 257 .
15- البقرة 2 : 161 ـ 162 .
16- البقرة 2 : 217 .
17- النساء 4 : 17 .
18- المائدة 5 : 39 .
19- المائدة 5 : 118 .
20- مسند أحمد 5 : 149 .
21- مسند أحمد 2 : 307 و 518 .
22- أمالی الصدوق : 177 .
23- سنن ابن ماجة 2 : 1441 / 4311 . ومسند أحمد 6 : 23 و24 و28 .
24- الخصال، للصدوق : 355 .
25- المیزان فی تفسیر القرآن، للطباطبائی 1 : 164 .
26- الرعد 13 : 39 .
27- المیزان 1 : 165 .
28- النساء 4 : 48 .
29- آل عمران 3 : 135 .
30- اُصول الکافی 2 : 285 / 23 کتاب الایمان والکفر باب الکبائر .
31- البقرة 2 : 254 .
32- البقرة 2 : 255 .
33- الانبیاء 21 : 28 .
34- المدثر 74 : 48 .
35- المدثر 74 : 48 .
36- المدثر 74 : 38 ـ 48 .
37- الاَنبیاء 21 : 28 .
38- أمالی الصدوق : 5 .