أعتقد أنّه لا بدّ من إيلاء هذا الحديث عناية خاصة، وعدم التساهل إزاءه، وذلك لأنّه ونظائره من الأحاديث قد اتخذته بعض الفرق والجماعات مستنداً للقول بابتناء الشريعة على ثنائية الباطن والظاهر…
الشيخ حسين الخشن
سؤال: ما صحة الرواية القائلة: “لو علم ابو ذر بما في قلب سلمان لقتله”؟ وهل في هذا مبرر لقبول كل ما يروى في المناقب بحجة أن قلوبنا لا تتحمل مقامات آل محمد عليهم السلام؟
أعتقد أنّه لا بدّ من إيلاء هذا الحديث عناية خاصة، وعدم التساهل إزاءه، وذلك لأنّه ونظائره من الأحاديث قد اتخذته بعض الفرق والجماعات مستنداً للقول بابتناء الشريعة على ثنائية الباطن والظاهر، وأنّه مع وصول الإنسان إلى الباطن، فلن يكون بعدها بحاجة إلى الأخذ بالظاهر، لأنّه مجرد قشور ووسائط ووسائل، ولا قيمة للوسيلة إذا وصل الإنسان إلى مقصده وغايته. وهذا في الحقيقة شكّل مدخلاً اتخذ منه الباطنية ذريعة لهدم الإسلام، وتسللوا من خلاله للتملّص من الشريعة وحدودها من الواجبات والمحرمات، كما أن البعض قد يتخّذ منه مدخلًا للكلام عن وجود أسرار غيبية ومقامات روحيّة ترفع الأئمة من أهل البيت (ع) عن حدّ البشرية وتوصلهم إلى حدّ الربوبية. لأنّه إذا كان سلمان الفارسي وهو صحابي على هذه الحالة فما ظنك بالإمام المعصوم (ع)؟!
أولاً: في سند الحديث ومصدره
هذا الحديث قد رواه الشيخ الكليني بسنده إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) عن جدّه الإمام علي بن الحسين (ع)(1) ، وقد وصف العلامة المجلسي هذا الحديث بأنّه ضعيف(2)، وهو مروي أيضاً في “بصائر الدرجات” للصفار(3)، وهو الكتاب الذي وقع محلاً للبحث في مدى إمكان الاعتماد عليه، ومدى إمكان الوثوق بالنسخة الواصلة إلينا منه..
ثانياً: مضمون الحديث
الحديث يشير إلى كرامة وفضيلة لسلمان الفارسي، حيث يدلّ على أنّ سلمان يمتلك من المعارف والحقائق ما لو أظهره لأبي ذر الغفاري، فإنّ الأخير لن يتمكن من تحمّل ذلك، بل سيندفع إلى تكذيب سلمان والحكم عليه بالارتداد أو ربما اتهمه بالعمل بالسحر – مثلاً – ومن ثمّ قد يقدم على قتله نتيجة لذلك. ونقل الفيض الكاشاني أنّه في رواية أخرى جاء: “لكفّره، بدل قتله”(4).
وعلى هذا فالدافع إلى القتل ( قتل أبي ذر لسلمان) هو الجهل بما عليه سلمان، ولكنّ بعض العلماء(5) طرح دافعاً أو سبباً آخر للقتل وهو الحسد، لكنه بعيد عمّا نعرفه من روحيّة أبي ذر الغفاري وخلوص نيته لله تعالى.
واحتمل البعض أنّ يكون ضمير المفعول في “قتله” راجعاً إلى أبي ذر نفسه، ويكون هو – أي أبو ذر – هو المقتول، وذلك لأنّ أبا ذر لو اطلع على ما لدى سلمان من معارف فإنّه لن يخزنها في قلبه بل لباح بها وأفشاها، ما قد يؤدي إلى أن يُقتل على أيدي بعض الأشخاص الذين لا يعجبهم هذا العلم ولا يتحملون سماعه، ولكنّ هذا التفسير بعيد، ومخالف لظاهر الحديث.
ثالثاً: توجيه وتفسير
بصرف النظر عن سند الحديث، يمكن القول في توجيه مضمونه وتقريبه: أنّ الحديث يرمي إلى بيان حقيقة واقعية، وهي أن المؤمنين على مستويات متعددة لجهة تحمل الأعباء وفهم الحقائق والمعارف الدينية والالتزام بالضوابط، فربّ إنسان يبلغ مستوى رفيعًا لا تزلزله كل الشبهات، ولا تفلّ عزمه التحديات والصعاب، وتنكشف له الكثير من الحقائق، وهذا هو الإنسان المؤمن الخالص. ودون ذلك، فثمّة أشخاص لا يصلون إلى هذه المرتبة، ولا يتحملّون مثل هذا الفهم والوعي والعلم، فكلّ يتحمّل بقدر وعائه، كما قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد-17].
رابعاً: تأمل وتحفظ
مع ذلك، فثمة مجال للتأمل في هذا الحديث، لا من جهة ضعفه السندي فحسب، بل من جهات أخرى وأهمها: أنّ منزلة سلمان مهما كانت رفيعة وسامية، وهذا أمر لا شك فيه وتكفيه عظمةً كلمة الرسول الأكرم (ص) في حقه: “سلمان منا أهل البيت”(6)لكن مع ذلك فمن غير الواضح أن يصل البون بينه وبين أبي ذر إلى مثل هذه المسافة الشاسعة التي تعكسها عبارة “لقتله”. وكأنّ أبا ذر كان شخصاً متحجراً لا يستطيع أن يحمل بعض الأفكار الرفيعة والدقيقة، أو كأنه كان جلفاً صحراوياً، يندفع إلى القتل والذبح، ولا يقدّر أنّ ثمّة مراتب روحيّة قد لا يصل إليها إلا الأوحدي من الناس. إنّ هذا الحديث قد ذمّ أبا ذر من حيث أراد مدح سلمان، مع أنّ منزلة أبي ذر عند رسول الله مشهورة، وقربه ومعرفته بالرسول (ص) وبأمير المؤمنين(ع) كفيلان بأن يؤهلاه للاطلاع على الكثير من معارف الدين وحقائقه، وقد قال فيه الرسول (ص) كلمة تدل على عظيم إخلاصه وعلو منزلته، ففي سنن الترمذي: روى بإسناده إلى أبي ذر عن رسول الله (ص): ” ما أظلت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر، شبه عيسى بن مريم، فقال عمر بن الخطاب كالحاسد : يا رسول الله أفتعرف ذلك له؟ قال: نعم، فاعرفوه ” ، ثمّ قال الترمذي: وقد روى بعضهم هذا الحديث فقال: ” أبو ذر يمشي في الأرض بزهد عيسى بن مريم ” (7).
ولكن ربما تردّ هذه الملاحظة بأنّ عبارة: “لو علم أبو ذر بما في قلب سلمان لقتله” لا يُحمل على المعنى الظاهري والحرفي، فأبو ذر أجلّ من أن يقدم على قتل سلمان رضوان الله تعالى عليهما، وإنّما المراد هو الإشارة إلى هذا التفاوت في سعة الفهم؛ هذا غاية ما يمكن أن يُقال في توجيه هذا الحديث.
ولكنّ هذا مجرد تأويل وصرف للكلام عن ظاهره.
الهوامش:
(1)الكافي ج 1 ص 401.
(2) مرآة العقول ج 4 ص 416.
(3) بصائر الدرجات ص 45.
(4) الوافي للفيض الكاشاني ج1 ص11.
(5)شرح أصول الكافي للمازندراني ج ص
(6) عيون أخبار الرضا (ع) ج 2 ص 70، والمعجم الكبير للطبراني ج 6 ص 213.
(7)سنن الترمذي ج 5 ص 334.
المصدر:موقع الكاتب