مثلما أنّ الدعوة الأولى تتطلّب وعيًا واحتياجًا مبرمًا للإمام المعصوم العادل، فإنّ السعي الثاني سيتطلّب اعترافًا واسعًا وإدراكًا عميقًا لدور القرآن في تقديم أطروحة الحياة الشاملة …
إنّ إقامة القرآن في الحياة تعني تطبيق خطّة الله التي تهدف إلى إيصال البشريّة إلى مقام القرب والكمال. فقد احتوى كتاب الله العزيز على كلّ البرامج الاجتماعيّة والفرديّة التي تحقّق السّعادة في الدارين، إلّا أنّ التّعامل الناقص معه جعل هذه البرامج تختفي أمام الأنظار، ليتحوّل هذا الكتاب المجيد إلى مجرّد وسيلة لتحصيل الأجر والثواب في التلاوة.
صرّح القرآن نفسه بأنّه يتطلّب البيان:{وأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون}.(1) وأنّ حقائقه مستودعة عند الإمام المبين: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ في إِمامٍ مُبين}،(2)وأثبتت التجربة التاريخيّة الممتدّة أنّ تطبيق القرآن يعتمد على فهمه بعمق وطهارة، وأنّه لا يمكن أن يتحقّق ذلك دون وجود عالم حقيقي: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون}،(3) { لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُون}.(4)
وهكذا أدرك بعض المتنوّرين أنّ وصيّة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالتمسّك بالكتاب والعترة وعدم افتراقهما يشير إلى هذه الحقيقة. فلا يمكن لأي مجتمع أن يقيم القرآن في حياته وهو لا يقيم للإمام المعصوم العادل وزنًا.
إنّ أهمية وجود الإمام العادل تكمن في إدراكه لكل معاني القرآن وحقائقه وفي قدرته على قيادة المجتمع المسلم على طريق تطبيق تعاليمه وأحكامه كافّة.
ويوجد في هذا المجال تفسيرٌ عميق للعلاقة بين حجّة الله وخليفته في أرضه وكتاب الله، يفيد بأنّ للقرآن حياة واقعيّة لا تظهر للعالمين إلّا من خلال التّفاعل الذي يحصل بين الإمام والقرآن نفسه.
إنّنا نقرأ عن قدرة القرآن العجائبيّة التي أقل ما يُقال عنها أنّها تتسبّب بهزيمة وخسارة أعداء الله. … {وَلا يَزيدُ الظَّالِمينَ إِلاَّ خَسارا}(5). وصحيح أنّنا لا نقدر على تصوّر كيفيّة جريان هذه القدرة، لكنّنا نستطيع أن نتصوّر مشهد وليّ الله الأعظم وهو يتلو بضع آيات على جماعة أو واقعة فيحدث فيها تأثيرات كبيرة.
يخبرنا القرآن نفسه عن أحداث مصيريّة تقع بعد مجيء بعض آيات الله، كما في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُون}(6).
فقد تضمّن القرآن جميع آيات الربّ المتعال، والتي تعبّر عن حضوره تعالى في الأكوان. بيد أنّ ظهور هذه الآيات يعتمد على من يتلوها بحقّ؛ وليست هذه التلاوة سوى إحدى معاني التطبيق الذي يقوم به الإمام نفسه!
وتشير رواية رائعة إلى كون بعض أبعاد القرآن الكريم ذات تجدّد وتحقّق وظهور بحسب الأزمنة، كما جاء في حديث عنِ الرِّضَا عَنْ أَبِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (ع): “إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) مَا بَالُ الْقُرْآنِ لَا يَزْدَادُ عِنْدَ النَّشْرِ وَالدِّرَاسَةِ إِلَّا غَضَاضَةً فَقَالَ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْهُ لِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ وَلَا لِنَاسٍ دُونَ نَاسٍ فَهُوَ فِي كُلِّ زَمَانٍ جَدِيدٌ وَعِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ غَضٌّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ”.(7)
ولأنّ الزمان هو صنيعة يد الإنسان، ولأنّ المقصود بالزمان هو أحداثه وليس مجرّد التحوّل الشمسيّ والقمريّ، فإنّ إمام العصر سيُظهر تلك الحقائق الكبرى التي اختفت بسبب نكول المجتمع عن السعي لتطبيق القرآن. وسيكون إظهاره لها من خلال الأحداث الكبرى التي تتحقّق بقيادته.
إنّ سعي المجتمع من أجل إقامة القرآن هو الذي يصنع ذلك الزّمن القرآنيّ، الذي تتجلّى فيه آيات العظمة الإلهيّة. وحين تتجلّى هذه الآيات، فإنّ مجيء الربّ سيتحقّق حيث يزهق الباطل كلّه وينهزم معسكر الشرك وتزول حكومة الكفر والظلم. {وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}. (سورة الفجر، الآية 22).
ولكي يكون السّعي الاجتماعيّ على طريق القرآن، ينبغي أن يبدأ من خلال التمسّك بحبل الهداية الوثيق الذي يتفرّع إلى عروتي كتاب الله وعترة نبيّه. فالقرآن هو الخطة والنظام، والإمام هو القائد المبيّن.
وهكذا، فسوف نشهد ثورة حقيقية لا ترتبط بالدعوة لحكومة الإمام وقيادته فحسب، بل في السعي نحو إقامة كتاب الله في الحياة. ومثلما أنّ الدعوة الأولى تتطلّب وعيًا واحتياجًا مبرمًا للإمام المعصوم العادل، فإنّ السعي الثاني سيتطلّب اعترافًا واسعًا وإدراكًا عميقًا لدور القرآن في تقديم أطروحة الحياة الشاملة لكلّ شؤون الإنسان الاجتماعيّة والاقتصاديّة والعلميّة والسياسيّة والتربويّة والفنيّة والبيئيّة.
لا يمكن أن ندرك أهمّيّة وجود الإمام المهدي في حياتنا فندعو إليه ونمهّد له، ما لم ندرك شراكته الحقيقية لكتاب الله. فإنّ شوقنا الأكبر للإمام يكمن في شدّة احتياجنا إلى كلمة الله وإلى ظهور آيات عظمته في هذا الكون الفسيح.
الهوامش:
(1)سورة النحل، الآية 44.
(2)سورة يس، الآية 12.
(3)سورة النحل، الآية 12.
(4)سورة الواقعة، الآية 79.
(5)سورة الإسراء، الآية 82.
(6)سورة الأنعام، الاية 158.
(7)عيون أخبار الرضا، ج2، ص 87.
المصدر: مركز باء للدراسات