إن خصوصية الإمامة المبكرة للإمام المهدي (ع) ، لهي إمامة حقيقية واقعية تحمل المؤهلات الكافية بكل مافي الإمامة من محتوى فكري وروحي ، وهي ليست إمامة مفترضة أو مدّعاة ، ويمكن النظر إليها من ناحيتين….
مجتبى السادة
إن الإمام المهدي (ع) خلف أباه في إمامة المسلمين في وقت مبكر من حياته الشريفة ، وهو يومئذ ابن خمس سنين .. وهذا ما يستشكله المخالفون على الشيعة قبولهم وإيمانهم بإمامته وهو في هذه السن الصغيرة ، علماً بأن من شروط إمام صلاة الجماعة عند الشيعة (البلوغ) ، فكيف بإمامة جميع المسلمين في كافة شؤون الحياة ، وبتحمل مسؤولية تبليغ الشريعة والحفاظ عليها ، وهذا من الشبهات التي تثار وتطرح بخصوص الإمام المهدي (ع).
إن خصوصية الإمامة المبكرة للإمام المهدي (ع) ، لهي إمامة حقيقية واقعية تحمل المؤهلات الكافية بكل مافي الإمامة من محتوى فكري وروحي ، وهي ليست إمامة مفترضة أو مدّعاة ، ويمكن النظر إليها من ناحيتين:
1-الناحية العقائدية:
إن الشيعة الإمامية تؤمن بأن الإمامة من اصول الدين ، والتي هي من شؤون رب العالمين ، وليست من خصائص المكلفين ، أي أنها مسألة عقائدية مثلها مثل النبوة تقوم بالدليل والبرهان ، ولا تخضع لمقاييس الناس أو المقاييس الفقهية (كالبلوغ – الحجر على الصغير) ، فإذا قام الدليل على إمامة الصغير فلابد من الإذعان لها كما أذعنا لنبوة الصغير ، وهكذا نجد القرآن الكريم يصرح بثبوت النبوة للصبي ، وعندنا مثالان على ذلك:
1-النبي عيسى بن مريم (ع) وهو من أولي العزم ، جُعل نبياً وهو رضيع ، قال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(1)
2-النبي يحيى بن زكريا (ع) جُعل نبياً وهو صبي أبن تسع سنوات ، قال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}(2)
فالنبوة مقام رفيع ووسام عظيم لا يتقلده إلا المؤهل لهذه المنزلة ويختاره الله لذلك ، وهكذا بالنسبة للإمامة ، فهي مقام شامخ ومنزلة رفيعة يتم أختيارها من قبل الله سبحانه وتعالى .. فالإمامة امتداد للنبوة ، فالإمام المهدي (ع) ليس نبياً ، لكن فيه شبه من سنن الأنبياء ، وهؤلاء المجتبون مرتبطون بمهمة ربانية ، وسبحانه وتعالى هو الذي يزودهم بالعلم والحكمة ، ولهذا فان كانت الشبهة والإشكال تطرح على الإمام المهدي (ع) في إمامته المبكرة ، فإنها أيضا تطرح على الأنبياء قبله ، والجواب هنا هو الجواب هناك.
2-الناحية التاريخية:
إن الإمامة المبكرة قضية ثابتة في التاريخ الإسلامي ولم تكن وهماً من الأوهام ، لأن الفرد الذي يبرز على المسرح الاجتماعي والديني وهو صغير ، ويعلن عن نفسه إماماً روحياً وفكرياً للمسلمين ، ويدين له بالولاء والإمامة تيار واسع من المجتمع وقاعدة شعبية عريضة من الشيعة ، لابد أن يكون على قدر كبير من العلم والمعرفة وسعة الأفق ، والتمكن من الفقه والتفسير والعقائد ، لأنه لو لم يكن كذلك لما أمكن أن تقتنع القواعد الشعبية بإمامته .. بالإضافة لذلك ، لماذا سكتت السلطة العباسية وهي قوة معادية ، وتعتبر الإمام مصدر خطر كبير يهدد كيانها ، ولم تعمل على كشف الحقيقة إذا كانت في صالحها؟ وتفضح هذه الإمامة الصغيرة في السن ، وتبرهن على عدم كفاءته للإمامة والزعامة الروحية والفكرية للأمة.
إن ظاهرة الإمامة المبكرة كانت ظاهرة واقعية في حياة أهل البيت (ع) ، وليست مجرد افتراض ، ويكفي مثالاً لها في التاريخ الإسلامي الإمامان:
1-الإمام محمد الجواد (ع) ، الإمام التاسع للشيعة ، تسلم الإمامة وعمره 6 سنوات.
2-الإمام علي الهادي (ع) ، الإمام العاشر للشيعة ، تسلم الإمامة وعمره 8 سنوات.
إن التفسير الوحيد لسكوت السلطات العباسية المعاصرة عن عدم استخدام هذه الورقة ، هي إدراكها أن الإمامة المبكرة حقيقية وليست مصطنعة ، فقد حاول العباسيون في زمن (المأمون) إفشال إمامة الجواد (ع) وإحراجه باعتباره صبياً ، فرتبت مناظرة (3) بينه وهو يومئذ ابن تسع سنوات ، وبين قاضي القضاة يحيى بن أكثم وهو أكبر قامة علمية لدى السلطة ، ولكنه غرق في شبر ماء من علم الإمام الجواد (ع) ، وبالفعل قد أثبت الأئمة (ع) جدارتهم أمام كل التحديات بعيداً عن أعمارهم ، بل تحدّوا بعلمهم وفضلهم كل الشخصيات التي كانت ذات صدى علمي في العالم الإسلامي وغيره ، ومن هنا نعرف عظمة أهل البيت (ع).
نحن ماذا نطلب وننتظر من الإمام المعصوم غير العلم الوافر والخلق العظيم وهداية البشر ، بالطبع لا ننتظر منه أن يكون رياضيا مبدعا أو ملاكما قويا أو مصارعا ضخما حتى يكون للعمر والوزن دور ومقياس .. كذلك شاهدنا في بعض الاحيان وعلى طوال صفحات التاريخ ، بروز اطفال يمتازون بذكاء حاد يفوق الرجال ، فعشرات من العباقرة نبغوا في طفولتهم ، فعندما يحبو ن الله هؤلاء العباقرة الصغار بنعمة العقل والنبوغ ليصبحوا نوادر عصرهم وفرائد زمانهم ، أفتراه يعجز عن اختيار إنسان لجعله خليفته وحجّته وإماماً للزمان ، ومثالاً وقدوةً لأبناء البشر ومسؤولاً عن شريعته فيهم.
أهل البيت (ع) ترى أن الإمامة منصب إلهي لا يتمتع به إلا من تكتمل لديه صفات أساسية تتلخص في العلم والعصمة ومجموعة من صفات الكمال ، لابد للقائد الربّاني من الاتصاف بها ، وهذه المواصفات إذا اجتمعت في إنسان جعلته جديراً بها مهما كان عمره ، فلا مانع من اجتماعها في طفل لم يبلغ الحلم .. لقد ثبت أن النبوة والإمامة المبكرة حقيقة واقعية من الجهة الإسلامية والناحية التاريخية ، فلم الاعتراض إذاً فيما يخص إمامة المهدي (عج) ، وقد نال هذا الوسام الربّاني وهو في الخامسة من عمره المبارك.
الهوامش:
(1) سورة مريم : آية 29 & 30.
(2) سورة مريم : آية 12.
(3) مناظرة مشهورة في التاريخ في مسألة مُحرم قتل صيداً ، ذكرت في كتاب الاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 444 ، وهناك مناظرات عديدة غيرها.
المصدر : كتاب رؤى مهدوية