لقد كان ما جرى في القمة الأخيرة وما لم يجرِ، عميقا بعمق مأساة فلسطين ومأساتهم، وشتان ما بين مأساة الشرف والتحدي ومأساة الخيانة والذله. حيث تجاهلت كلماتهم وقراراتهم في شكلها ومحتواها الهم العربي، والتحدي التصفوي المستجد والخطير على القضية الفلسطينية في سياق ما سمي بصفقة او مؤامرة العصر، واختبأوا وراء القدس. وكأنهم في قممهم يرسلون رسائل جماعية ومتعاقبه لإقناع الشعوب العربية بتقبل الإحتلال وبالرضوخ للصهيونية تحت عنوان التيئيس بالعجز العربي.
وليسمح لي القارئ بالقول أن الحدث الجديد والخطير على القضية ليس نقل دولة لسفارتها الى القدس، بل كان لتلك الفعلة الغبية مردود ايجابي علينا وعلى القدس. فكلنا نعلم الموقف الأمريكي الحقيقي الخادع من القدس إلى أن جاء صهيوني جاهل لسدة الرئاسة وكشف عن الحقيقة محرجا أمريكا وعازلا لها عن دورها الخادع، ومعريا أصدقاءها العرب مع خونة الأمة. فنقل السفارة لم يغير وضع القدس من حيث القانون الدولي ولا من حيث قرارات الشرعية الدولية بشأنها، بل كانت فرصة لتأكيد المجتمع الدولي على موقفه من أن القدس ارض محتلة وعاصمة لفلسطين، وبأن ما قامت به أمريكا مدان وباطل.
بينما الحدث المستجد والخطير على القضية هو السياق الذي جاء به اعلان ما سمي بصفقة القرن اي بمعنى أن الخطورة ليست في تبني وطرح امريكا و”أسرائيل” للمشروع، فنحن ننتظر منهم كأعداء أكثر من ذلك، والعبرة هي في التنفيذ. بل الخطورة تكمن في أن يكون هناك عرب متعاونون سياسيا وماليا بالمشروع مما يجعل منه أو من فكرته مستجدا سياسيا عربيا – دوليا خطيرا على القضية الفلسطينية ويجعل من ثوابتها جدلية على الأقل بالنسبة لاوروبا والعالم ولكل دولة دعمت وتدعم الحقوق الفلسطينية المشروعة وغير القابلة للتصرف على التراب الفلسطيني. فالتعامل العربي مع المشروع أو الصمت عنه هو الخيانة العظمى وهو الخطر على مسار القضية، وكان هذا هو محك القمة الأخيرة.
وقبل أن أدلي بحديثي أرجو أن أوضح قناعتي، بان هذا المشروع التصفوي الذي تقوم لعبته المعلنه (دون المخفية) على إقامة دولة فلسطينية في سيناء، هو كلام غير قابل للتحقق أو القبول أو النجاح إطلاقا، ولا هو مقبول لإسرائيل التي لا تسعى إلا لحل تاريخي قابل للتحقق ويمكن تسويغه للعالم، وقد تحدثت عن هذا الحل في مقال سابق. فطرح المشروع وتداوله عربيا او فلسطينيا أو السكوت عليه أمام العالم هو ما تريده “اسرائيل” لأنه يشكل توطئة سياسية واعلامية للحل التاريخي الذي تريده.
ومن هنا علينا أن نتأكد بأن هذا المشروع لا يقتصر في الواقع على ما أعلن عنه وقرأناه، ولا هو بحد ذاته هدفا لهم. بل الهدف هو ما لم يُطرح للعلن بشأن المشروع ومتطلباته وفيها تكمن علامات الإستفهام. فالذين كشفوا عن المشروع، أغفلو الحديث عمدا عن مصير الضفة الغربية وسكانها، لنصبح امام دور أردني مطلوب، وهذا هو العجز لبيت القصيد، أما صدره فهو التخلص من السلطة وحماس معا. بمعنى أن بيت القصيد بصدره وعجزه من المشروع هو الأردن والسلطة وحماس، وجميعهم سيكونون مستهدفين لحساب الحل التاريخي، ولن تكون هناك دولة في سيناء بالمحصلة.
وكلمتي هنا ان “إسرائيل” في سعيها من وراء المشروع، ستستطيع الاستفراد بالسلطة الفلسطينية وفرض ما تشاء عليها وعلى بنيتها، وعلى توجيهها، وتستطيع الاستفراد بغزة والمقاومة كون خطر الهجوم عليها وعلى قادتها لا يشكل خطرا وجوديا على “اسرائيل” كالذي يشكله حزب الله مثلا. أما الأردن فهو مربط الفرس، فهل سيكون تطويع الملك سهلا على “اسرائيل” وأمريكا ؟، فالملك واع للملعوب، وأدعي أنه يعلم بحقيقة الدور الذي طُلِب أو سيطلب منه، رغم اني لا أجزم بقناعته بعدم مصداقية أو نجاح قيام دولة فلسطينية في غزة وأتمنى أن يكون مقتنعا باستحالة تحققها وبأنها حلقة في الملعوب.
يعلم الملك تماما المآلات السياسية المدمرة للقضية الفلسطينية وللكيان السياسي الأردني لأي دور أردني في الضفة الغربية، بالضم كان أو أو بالإحلال أو بالإدارة، ويعلم حساسية ذلك لدى الأردنيين والفلسطينيين، وبأن الشعب الأردني كمواطنين بطيفهم الشرقي ويعضده الغربي لن يقبل إطلاقا أن يكون القرار الأردني بديلا عن القررا الفلسطيني أيا كان الطيف السياسي الفلسطيني. ومع ثقتي برفض الملك وبمقاومتة الشديده لأي دور للأردن بالضفة الغربية على هذا المفهوم الذي لا يخلو ايضا من مخاطر شخصية عليه، إلا أني أعلم بوسائل الضغط والتهديد التي سيواجهها. لكني أعلم أيضا بأن الأردنيين بكل أطيافهم سيشكلون جبهة داخلية تقف بصلابة الى جانب الملك في مواجهة أي ضغوطات، فحاكم يدعمه شعبه لا يستطيع ابتزازه أحد.
ونتوقف هنا عند موقفين هاشميين، الأول هو موقف الملك حسين رحمه الله،حين واجه العالم والعرب برفضه الاصطفاف مع امريكا ضد العراق رغم أقسى التهديدات والضغوطات الأجنبية والعربية. وكانت قوته وحجته المعلنة لهم لا تقاوم، وهي أن شعبه يريد ذلك الموقف. وانتهت الحرب وعاد الملك صديقا للغرب ثم للعرب. أما الموقف الثاني، فهي كلمة الأردن في القمة الأخيرة التي نستلهم منها موقفا اردنيا نعلق عليه آمال لما انطوت عليه من رفض الملك الواضح لمؤامرة العصر حين أكد بنقاط واضحة على الدولة الفلسطينية على الأرض الفلسطينية وعاصمتها القدس.
وأعود للقمة الأخيرة وأقول للحكام العرب ولا استثني منهم أحدا، باسم ابن الشارع العربي. لقد حرك الإعلان الأمريكي عن ما سمي بصفقة القرن الكُتَّاب والإعلاميون والسياسيون والشعراء ورجال الدين وحتى ربات البيوت. وأصبح المشروع قصة للجميع وهاجسا. إلا أننا لم نشهد موقفا أو بيانا سياسيا رسميا واحدا يصدر بشأنها من دولة عربية، لاسيما تلك المعنية مباشرة بالقضية الفلسطينية وبالصفقه، ولا حتى تعليقات رسمية سوى بعض التصريحات من رئيس السلطة الفلسطينية جاءت في سياق مناسبات وطنية. ولا مجال لأحد من الحكام تبرير هذا التجاهل بإنكار علمه أو إعلامه بها، ولا لإنكار حقيقة طرحها بجوانبها السياسية والجغرافية والمالية وحتى البنية التحتية، على الطاولات وفي الغرف السوداء.
وعليه فقد كان تكرار تجاهل الصفقة المطروحة في القمة بالتوازي مع عدم اتخاذ موقف عربي جماعي من القضية الفلسطينية، مؤشرا على التواطؤ، لا عن مجرد التخلي عن القضية. وتمت التغطية على صمتهم المريب بمواقف من القدس هي في الواقع مواقف لدول العالم ضعيفها وقويها وعبروا عنها جماعيا في الأمم المتحدة وبقرار. وأشفق على الوفد الفلسطيني العاجز الذي بادر منتشيا ومغردا لدريهمات لا نعرف طريقها، وبتقديم نفسه بالمقابل كمتهِم ومنازع لحماس مثيرا موضوعا ليس مكانه قمه. بينما كان عليه أن يكون بحجم فلسطين والأمانة، وواضحا بالمطلوب للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني.
* فؤاد البطاينة – رأي اليوم