كانت النجوم تتلألأ في كبد السماء، وأشعة النور تنبعث من وجه القمر الوضاء، لتهب النفوسَ المتيّمة قدراً من الطمأنينة والسكون فتهدأ القلوب وتسكن الآهات، لتحكيها الأحداق بحبات من اللؤلؤ تنساب وجداً وشوقاً الى الحبيب على الخدود الندية. وبروح كدها الانتظار،ونفس آلمها اليأس من نيل المنى، ألقى عليّ بدنه المتعب على فراشه وقد بدا الارهاق عليه شديداً،والناظر إلى عينيه يقرأ فيهما الحزن والأسى، وما لبث أن أغمض تينك العينين المجهدتين ليغطّ في نوم عميق…
كانت النجوم تتلألأ في كبد السماء، وأشعة النور تنبعث من وجه القمر الوضاء، لتهب النفوسَ المتيّمة قدراً من الطمأنينة والسكون فتهدأ القلوب وتسكن الآهات، لتحكيها الأحداق بحبات من اللؤلؤ تنساب وجداً وشوقاً الى الحبيب على الخدود الندية.
وبروح كدها الانتظار،ونفس آلمها اليأس من نيل المنى، ألقى عليّ بدنه المتعب على فراشه وقد بدا الارهاق عليه شديداً،والناظر إلى عينيه يقرأ فيهما الحزن والأسى، وما لبث أن أغمض تينك العينين المجهدتين ليغطّ في نوم عميق…
لم تمض على نوم عليّ سوى لحظات حتّى فتح عينيه،وكاد قلبه يمزق أضلاعه ليقفز منها محطماً جدران سجنه، وكادت دقات قلبه توقظ النائمين !! أحقاً مارأيت؟ أحقاً ماسمعت، وهل هذا الصوت القدسي ذو النبرة الملائكية كان يقصدني أنا ؟ أأنا المدعو للّقاء، أأنا الذي سأنال القرب بعد عشرين سنة من البحث هنا وهناك وبعد الشوق والتعب والبؤس والشقاء أُدعى لرؤية المحبوب.
عاد مستلقياً على ظهره وقد هدّه سماع ذلك الصوت الحنون في المنام، وعاد يركز من جــديد. فهــل حقاً أذن له في رؤية المحبوب الذي أمضى زهرة عمره وحلاوة شبابه في البحث عنه عسى أن يحظى منه بلقاء، ولو لدقائق معدودة ؟ عسى أن يضمّه الى صدره كما يضم أي عزيز له؟ عسى أن يكحل ناظره بنظرة إلى طلعته البهية، وتشرق على جوانحه أنوار ذلك الوجه القدسي. وحاول أن ينام، فأغمض عينيه لم يجد النوم طريقاً إلى تلك الأجفان المجهدة، والأمل واليأس يتنازع تلك الروح الجيّاشة بانتظار طلوع الفجر عشرات السنين، أحقاً بعد تلك المدة يفلح هذا المسكين بلقاء محبوبه المنشود.
إتكأ عليّ على وسادته وهو يقلب الذكريات، كم بحث في هذه البلاد وتلك؟ كم تنقّل بين الكوفة والاهواز ومكة والمدينة، بين رمال الصحراء المتوهجة وحرارة الشمس اللاهبة، كم عانى من هجير الرمضاء وزمهرير الشتاء ؟ ترى متى يطلع الفجر ليستعد للرحيل فالنداء يهتف في أعماقه، وتحقق الأمل لم يبق عليه إلا أمد قصير…
وفي الصباح الباكر ..كان يودّع بيته بنظرات الأمل باللقاء، ويلهب ظهر جواده ليغوص في عمق الصحراء،يلحق الليل بالنهار وقد أضناه المسير وهّده الاعياء وأخذ منه الطريق مأخذه، ولكن الأمل يحدو به إلى لقاء الحبيب.
وغدت هضاب مكة وجبالها ماثلة للعيان، ومركب العاشق بين تلك الآكام التي لا تزال تستشعر أنفاس الوحي المبارك، ورفرفة أجنحة الملائكة على صفحاتها الجرداء القاحلة…
وصل الركب الى مشارف مكّة، وأخذوا منازلهم ليهبوا لأجسامهم المتعبة قسطاً من الراحة، وأبت نفس عليّ الطامحة وقلبه المستهام الخلود إلى الراحة، فلهيب الشوق يقضّ مضجعه ويدفعه إلى مواصلة المسير.
خرج عليّ للطواف في البيت العتيق، حيث سيظهر الأمل المنشود، وينشر لواء العدل على ربوع الأرض، عسى أن يحظى ببغيته، ولكنه عاد الى رفاقه والحسرة تملأ جوانحه، وشعاع الأمل آخذ بالخفوت.
ولم يقرّ له قرار، فعاد إلى البيت الحرام يعيد الطواف عسى أن يحظى بما يريد،وفجأةً لاحت أمام ناظريه بارقة الأمل، وأشرقت جنبات نفسه بما هو المرتجى، حيث رأى رجلاً وسيماً كان لبريق عينيه وقع على فؤاده الضامي وكبده الملتهب بالشوق، وكان أن تمتم ذلك الآتي بكلمات اطمأنت لها نفس عليّ، وعزم على تنفيذ ما يريد…
ودنا اللقاء، ولم يبق إلا أن يأتي المساء لينال المُنى، ومضت عجلة الزمن تدور ببطء لا يعرفه إلا من ذاق الصبابة وألم الوجد ونار الفراق،وسار ركب الهوى بعد أن أرخى الليل سدوله،ليستر الفيافي والقفار بظلامه الدامس.
ولاح على البعد موضع من الأرض لا يشبه ما حوله، إذ ليس في تلك البيداء المترامية الأطراف إلا الرمال والصخور الجرداء، أما هنا فروضة لا توصف، بأزهارها العطرة وحدائقها الغنّاء وأريجها الفوّاح ومنظرها الخلاّب، فزادت حيرة عليّ، وأسرعت دقّات قلبه، لتكشف عن مكنون فؤاده وخباياه، فأشار صاحبه إلى من في الخيمة، فرأى النور ينبعث من داخلها، وشاهد وجهاً ملكوتياً يلوح الخال الأسود على خدّه كنقطة من المسك، ودقّ قلبه بعنف وأعلنت نبضاته المتسارعة أن اللقاء حلم العاشقين …
السيد محمّد عليّ الجابري/ الحوزة العلمية/ النجف الأشرف