اتّخذ الإمام الصادق عليه السلام جملة من الأمور اللازمة في مجال التثقيف العقائدي والفكري الموصل تلقائياً إلى معرفة مفهوم الغيبة وصاحبها، وإدراك هويته من قبل أن يُولد بعشرات السنين، وذلك من خلال تأكيده المباشر على أمرين، هما:
الأول: ثبوت أصل العقيدة المهدوية، ودعمها:…
من الواضح أنّ الحديث عن الغيبة والغائب ابتداءً، وبيان ما يجب فعله أو تركه في زمان الغيبة، ونحو هذا من الأمور ذات الصلة المباشرة بهذا المفهوم، لا يجدي نفعاً ما لا يُعلَم بأصل العقيدة المهدوية؛ ولهذا أراد الإمام الصادق عليه السلام تنبيه الأمّة على أصل هذه العقيدة، وذلك من خلال دعمها بما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشأنها، حتى لا يكون هناك شكٌّ في الأصل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما اتفقت الأمّة على نقله.
فعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، عن رسول الله عليه السلام قال: ولو لم يبقَ من الدهر إلاّ يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً.
وعن أبي سعيد الخدري قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول على المنبر: إنّ المهدي من عترتي من أهل بيتي، يخرج في آخر الزمان، يُنزّل الله له من السماء قطرها، ويخرج له من الأرض بذرها، فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملأها القوم ظلماً وجوراً).
وعن أبي سعيد أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (المهدي منّي، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً).
وعن اُم سلمة قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: المهدي من عترتي من ولد فاطمة).
وعن حذيفة بن اليمان، قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكّرنا بما هو كائن، ثم قال: لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يوم واحد، لطوّل الله عزّ وجلّ ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً من ولدي اسمه اسمي، فقام سلمان الفارسي فقال: يا رسول الله من أي وُلدك؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: من ولدي هذا، وضرب بيده على الحسين عليه السلام).
وغيرها من الأحاديث الكثيرة الأخرى.
وممّا يؤيّد عمق الاعتقاد بالمهدي عليه السلام في الوجود الإسلامي، هو أنّه لا يكاد يخلو كتاب حديثي من كتب المسلمين إلاّ وقد صرّح بهذه الحقيقة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثبوتاً قطعياً، ويكفي في ذلك أنّ من أخرج أحاديث المهدي عليه السلام من محدّثي العامة فقط بلغوا زهاء تسعين محدثاً، وقد أسندوها إلى أكثر من خمسين صحابياً، وأمّا من قال بصحتها أو تواترها فقد بلغوا ثمانية وخمسين عالماً من علمائهم فيما تتبّعناه، وإذا ما علمنا موقف أهل البيت عليهم السلام، وعرفنا عقيدة شيعتهم بالإمام المهدي عليه السلام، تيقّنا من حصول إجماع الأمّة بكل مذاهبها على ضرورة الاعتقاد بالمهدي عليه السلام.
وفي هذا الصدد توجد أحاديث كثيرة عن الإمام الصادق عليه السلام في تثبيت أصل القضية المهدوية، وهو ما اتفقت عليه كلمة المسلمين من ظهور رجل في آخر الزمان من ذرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلقب بالمهدي ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وانه يقتل الدجال وينزل عيسى بن مريم عليه السلام لنصرته، ويأتم بصلاته. ويدل عليه:
عن معمر بن راشد، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه: (…ومن ذرّيتي المهدي، إذا خرج نزل عيسى بن مريم لنصرته، فقدّمه وصلّى خلفه)).
وفي هذا الحديث تثبيت واضح لأصل القضية المهدوية، وإشارة مجملة إلى هوية الإمام المهدي عليه السلام بأنه من ذريّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مع التنبيه إلى مقامه، بأنّ عيسى عليه السلام سيكون _بأمر الله_ وزيراً للمهدي وناصراً له في آخر الزمان وأنه يأتمّ بصلاته.
وحديث نزول عيسى لنصرة الإمام المهدي عليه السلام أخرجه البخاري في (صحيحه)، عن أبي هريرة، وأخرجه مسلم في (صحيحه) من طرق شتّى عن أبي هريرة أيضاً، وجابر الأنصاري، والترمذي عن أنس، وعن نعيم عن عبد الله بن عمرو وحذيفة بن المنذر، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، وابن أبي شيبة، عن ابن سيرين مرسلاً.
ولا يقال هنا إنّ تحديد هوية الإمام المهدي عليه السلام من بين الذرية الطاهرة غير معلوم في حديث الإمام الصادق عليه السلام بمعنى أنه لابدّ وأن يكون إمام من ذرية الإمام الحسن السبط عليه السلام، أو من ذرية الإمام الحسين السبط عليهم السلام لانحصار ذرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهما وبأولادهما. ومن هنا جاءت الأحاديث الأخرى المثبتة لأصل القضية مصرّحة بهذا المعنى.
عن أبان بن عثمان، عن الإمام الصادق عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث قاله لعلي عليه السلام: (…كان جبرئيل عليه السلام عندي آنفاً، وأخبرني أنّ القائم الذي يخرج في آخر الزمان فيملأ الأرض عدلاً، من ذريتك، من وُلد الحسين عليه السلام).
وعن معاوية بن عمار، عن الإمام الصادق عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر: (…إن جبرئيل عليه السلام أتاني فأقرأني من ربي السلام، وقال يا محمد… ومنكم القائم يصلي عيسى بن مريم خلفه، إذا أهبطه الله إلى الأرض، من ذرية علي وفاطمة، من وُلد الحسين عليه السلام).
هذا، وأمّا ما قد يقال أنّ في بعض الأحاديث ما يثبت كون المهدي حسنياً لا حسينياً، فالجواب باختصار أنه لا يوجد حديث صحيح البتة يثبت هذا المعنى من طرق العامة، وإنما وُجِد ذلك في حديثين فقط، أرسل الطبري أحدهما ولا حجّة في المرسل، والآخر رواه أبو داوود في (سننه)، قال: (حُدِّثتُ عن هارون بن المغيرة، قال: حدّثنا عمر بن أبي قيس، عن شعيب بن خالد، عن أبي إسحاق، قال: قال علي عليه السلام _ونظر إلى ابنه الحسن_: (إنّ ابني هذا سيّد كما سمّاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسيخرج من صلبه رجلٌ يُسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخُلُق ولا يشبهه في الخَلْق) ثم ذكر قصة: يملأ الأرض دلاً)، انتهى.
وسند الحديث مجهول ومنقطع؛ لأنّه قال: (حُدِّثتُ) ولم يذكر اسم مَن حدثه، فهو مجهول إذن، وهو منقطع أيضاً؛ لأن أبا إسحاق، والمراد به السبيعي لم تثبت له رواية واحدة سماعاً عن أمير المؤمنين علي عليه السلام كما صرّح بهذا المنذري في شرح حديث أبي داود، وقد كان عمره يوم شهادة أمير المؤمنين علي عليه السلام نحو سبع سنين؛ لأنّه وُلد لسنتين بقيتا من زمان عثمان، هذا فضلاً عن اختلاف النقل عن أبي داوود، فمنهم من نقله من كتاب (السنن) وفيه لفظ (الحسين عليه السلام) بدلاً من لفظ (الحسن عليه السلام)، وكذلك وجود أحاديث كثيرة اخرى من طرق العامة تثبت أنه من ولد الحسين عليه السلام.
وأما الشيعة الإمامية فليس في تراثها المهدوي الزاخر بهوية المهدي عليه السلام ما يشير _بأدنى عبارة من حديث أو أثر_ إلى كون المهدي من ولد الإمام الحسن السبط عليه السلام.
والأمر الثاني: بيان حكم من أنكر أصل العقيدة المهدوية:
من خلال ما تبيّن في الأمر يتضح جدّاً الردّ على الله ورسوله عليه السلام، وهو من قبيل الازدراء بإجماع هذه الأُمة بكلّ فصائلها وتياراتها على قبول أصل العقيدة المهدوية وإن اختلفوا في تفاصيلها.
وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يبين حكم من أنكر الإمام المهدي عليه السلام.
فعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من كذّب بالدجال فقد كفر، ومن كذّب بالمهدي فقد كفر).
وهذا ما أكدّه علماء المذاهب الأربعة فيما حكاه لنا علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الشهير بالمتقي الهندي الحنفي (ت/٩٧٥هـ)، إذ قال تحت عنوان: (فتاوى علماء العرب من أهل مكة المشرفة في شأن المهدي الموعود في آخر الزمان) إذ ورد عليهم سؤال بهذا الموضوع، قال المتقي: (وهذه صورة السؤال: اللهم أرنا الحقَّ حقّاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
ما يقول السادة العلماء أئمة وهداة المسلمين _أيّدهم الله بروح القدس_ في طائفة اعتقدوا شخصاً من بلاد الهند مات سنة عشر وتسعمائة ببلد من بلاد العجم، يسمى: (فره) أنّه المهديّ الموعود به في آخر الزمان، وأنّ من أنكر هذا المهديّ فقد كفر؟).