السيّد عبّاس نورالدّين
بالعلم تصحّ العبادة، وبالعلم تصبح عباداتنا وسيلة لارتقائنا في الدرجات. قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}…
العلم كمالٌ عظيم، الحصول عليه يدلّ على عناية إلهيّة خاصّة بالعبد. فلا يمكن أن يرفع الله وليًّا له دون أن يهبه العلم. فكل أولياء الله علماء حكماء.
والعلم دليلٌ على كلّ خير. وهو غذاء العقل ووقوده، فأمثال الله تعالى لا يعقلها إلّا العالمون، كما قال عزّ وجل(1)
فبالعلم تصحّ العبادة، وبالعلم تصبح عباداتنا وسيلة لارتقائنا في الدرجات. قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}(2) حيث أظهر هذا التفريق بين الذين آمنوا والذين أوتوا العلم من المسلمين أنّ الدرجات هي لأهل العلم.
لكن مجرّد العلم لا يعني النجاة ولا القرب. فقد يؤتي الله أقوامًا علمًا كثيرًا ليضلّهم عن سبيله، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}(3). فيكون العلم بمنزلة المحرّك القويّ لسيّارة تسير على غير الطّريق، فلا يزداد سائقها إلّا بعدًا عن المقصد الحقيقيّ.
فكيف يمكن أن نفرّق بين العلم الهادي والعلم المضلّ؟ وما هي علامات المتعلّم الحقيقي؟
في هذا المقال نذكر سبع خصائص أساسيّة لطلّاب العلم الواقعيّين:
1-حبّ العلم
يتميّز العالم الواقعيّ بحبّه للعلم والمعرفة والاكتشاف وإن كان غزير العلم. فقد تقابل عالمًا لديه الكثير من المحفوظات، لكنّك تتفاجأ بأنّه لا يكترث بمتابعة الأفكار والأخبار العلميّة والنتاجات الفكريّة؛ فهو عالمٌ يقتله جهله كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: “رُبَ عَالِمٍ قَدْ قَتَلَهُ جَهْلُهُ وَعِلْمُهُ مَعَهُ [لَمْ يَنْفَعْهُ] لَا يَنْفَعُه”.(4) وقد يتظاهر بعدم الاكتراث بأيّ جديد لكيلا يظهر أمام النّاس أنّه جاهل، فهذا الجاهل بعينه. لأنّه “لا يزال الرجل عالمًا ما طلب العلم، فإذا ظنّ أنّه علم فقد جهل”، كما قال رسول الله(ص).
إنّ حبّ العلم يتجلّى بشكلٍ أساسيّ في الاهتمام الفائق بأيّ شيء يمكن أن يرمز إلى العلم أو يدلّ عليه، من علماء أو مفكّرين أو باحثين أو كتب أو مصادر أو مجهولات الكون والطبيعة. وقد جاء في الحديث المعروف عن رسول الله(ص): “اغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا أَوْ أَحِبَّ أَهْلَ الْعِلْمِ، وَلَا تَكُنْ رَابِعًا فَتَهْلِكَ بِبُغْضِهِمْ”.(5) فدلّ ذلك على أنّ حبّ العلم هو قيمة بحدّ ذاته، وهو سبب للنجاة. وقد يموت إنسانٌ على جهل فينجو في الآخرة، لأنّه كان محبًّا للعلم (الذي هو كمالٌ إلهيّ) ولم تسنح له فرصة التعلّم. ويموت عالمٌ فيهلك لأنّه لم يكن محبًّا للعلم!
2-تعظيم العلم
الخاصّيّة الثانية لأهل العلم الحقيقيّين هي تعظيمهم للعلم لأنّهم يدركون قيمته وموقعيّته عند الله تعالى. وعلامة ذلك أنّهم لا يرون لأيّ شيء مادّيّ أو دنيويّ أي قيمة مقارنةً بالعلم. فلا يحسدون النّاس على ما آتاهم الله من فضل حطام هذه الدنيا وهم متنعّمون بنعمة العلم، ولا يطلبون به جاهًا ولا مالًا ولا شهرةً ولا رفعةً عند الناس؛ فقد كفاهم الله بالرزق الأعظم. كيف لا، والأنبياء لم يورّثوا درهمًا ولا دينارًا وإنّما ورّثوا العلم.
فلو رأيت عالمًا أو متعلّمًا محبًّا للجاه والسلطة، فاعلم أنّ الله تعالى سلبه روح العلم، وأنّه أعطاه ظاهره وألفاظه وقشره وقالبه. فمتى سرى العلم في روح الإنسان أدرك عظمةً تفوق كلّ عظيمٍ دنيويّ!
إنّ من أهم علامات تعظيم العلم هو أن يعظّم الطالب أهله، من علماء وطلبة وكتب ومشاريع علميّة، وكل ما يمكن أن يكون سببًا لانتشار العلم وازدهاره. والدليل على رسوخ هذه العلامة في قلب العالم تمييزه للعلماء في درجاتهم وتبحّرهم وسعة اطّلاعهم ودقّتهم وأطروحاتهم العلميّة.
3-العمل بالعلم
الخاصّيّة الثالثة للمتعلّم الحقيقيّ هي أنّه يطلب العلم لأجل العمل. فهو مدرك تمامًا أنّ كل كمال في الوجود هو مقدّمة للكمال الأعلى، ألا وهو كمال القرب من الله وتحقيق رضاه والعبوديّة له. فالعالم هو الذي يفقه جيّدًا أنّ الحقيقة الكبرى والأولى في هذا الوجود هي أنّ هناك ربًّا واحدًا لكلّ شيء والكل عبيده. وشأن العبد أن يكون في طاعة ربّه عاملًا بإرادته. فكيف يكون العالم عالمًا وهو لم يدرك أوضح حقيقة في الوجود؟!
فمن كان أكبر همّه جمع العلم وتكثيره، فهو منحرف عن جادّة الصواب، إلّا أن يكون عاملًا بما يعلم. وقد جاء في الحديث عن عليّ بن الحسين(ع): “مَكْتُوبٌ فِي الْإِنْجِيل: لَا تَطْلُبُوا عِلْمَ مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَلَمَّا تَعْمَلُوا بِمَا عَلِمْتُمْ، فَإِنَّ الْعِلْمَ إِذَا لَمْ يُعْمَلْ بِهِ لَمْ يَزِدْ صَاحِبَهُ إِلَّا كُفْرًا وَلَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا”.(6) وفي حديثٍ عن الإمام الصادق (ع): “إذَا سَمِعْتُمُ الْعِلْمَ فَاسْتَعْمِلُوهُ وَلْتَتَّسِعْ قُلُوبُكُمْ فَإِنَّ الْعِلْمَ إِذَا كَثُرَ فِي قَلْبِ رَجُلٍ لَا يَحْتَمِلُهُ قَدَرَ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ”(7) وهذا يدلّ على قلّة اهتمام العالم برضا الله وطاعته. فكيف لا يكون عندها أداة بيد الشيطان عدوّ الله؟!
4-الهدفيّة
يتميّز العالم الحقيقيّ بكونه هادفًا في كلّ حركة فكريّة أو علميّة يقوم بها. فهو لا يطلب العلم لأجل العلم، بل يطلبه لأجل هدفٍ محدّد. وينبع هذا الهدف عادةً من حاجةٍ في المجتمع يسعى لسدّها أو معضلةٍ ذات تأثير على إيمانه فيعمل على حلّها.
الطّالب الواقعيّ لا يدرس العرفان لأنّه علمٌ جميل، أو يتبحّر في أصول الفقه لكي يتمكّن من هذا العلم بين زملائه ولا يسعى للاجتهاد إلّا لأجل التقدّم بالفقه و… وباختصار، تكون الثمرة العلميّة هدفًا مشخّصًا عند طالب العلم الحقيقيّ، الذي يجتنب أيّ دراسة أو مطالعة لا تعطي فائدة واقعيّة.
وقد يكون الهدف في بداية التحصيل العلميّ عامًّا أو كلّيًّا، لكنّه سرعان ما يتبلور ويتشخص نتيجة الإخلاص في الطلب وصفاء النيّة؛ حتّى إنّه ليصبح ساطعًا لطالبه كالشمس في رائعة النهار. فإذا وجدت عالمًا كثير العلم وسألته عن هدفه في حركته العلميّة، فجاءت إجابته مبهمة أو عامّة فاعلم أنّه بعيد عن العلم بمسافات!
5-الروحيّة العلميّة
ومن علامات الطالب الحقيقيّ للعلم هو امتلاكه للروحيّة العلميّة التي تتجلّى بصورة أساسيّة في البحث والسؤال والاهتمام الجادّ بالمنهج الدقيق الموصل للحقيقة. فقد يكون شخصٌ كثير العلم، لكنّه لا يمتلك المنهج العلميّ، وإنّما حصلت له غزارة العلم بالحفظ والاستماع وكثرة الجمع. وقد شبّه العلّامة الشهيد المطهّري وعاء العلم بالمعدة. فإنّ كثرة المعارف قد تكون أحيانًا مثل كثرة الطّعام الذي يدخل إلى المعدة فيسبّب لها سوء الهضم. ولكي يستفيد الطالب من أيّ معلومة تواجهه، ينبغي أن يمتلك هذه الذهنيّة العلميّة، التي هي بمنزلة الجهاز الهضميّ السّليم الذي يميّز بين الأطعمة ويقوم بتحليلها وهضمها وتوزيعها على البدن بحسب حاجته وضمن نظامٍ دقيق.
قد تجد شخصًا يعرف الكثير من وقائع التّاريخ، لكنّه غير قادر على استخلاص العِبر منه، لأنّه عاجز عن تحليل تلك الوقائع بصورة علميّة ترتبط بالمجال الذي يعمل فيه.
6-حسن الخلق
رغم أنّ هذه الخاصّيّة اعتُبرت عند الكثير من أهل العلم غير ذات صلة بالعلم، لكنّها وفق المدرسة النبويّة أساس الوصول إلى العلم الحقيقيّ. فلا يمكن أن يهب الله تعالى نور العلم إلّا لمن تخلّق بمحاسن الأخلاق. هذا بالإضافة إلى الدور المحوريّ لتهذيب النفس على صعيد توسعة وعاء العلم وتفعيل الاستعداد العلميّ وتقوية المدارك والقوى العلميّة في الإنسان. وقد جاء في الحديث عن أمير المؤمنين(ع): “ليسَ العِلمُ فِي السَّماءِ فَيُنزَلُ إلَيكُم، ولا في تُخومِ الأرضِ فَيُخرَجُ لَكُم، ولكِنَّ العِلمَ مَجبولٌ في قُلوبِكُم، تَأَدَّبوا بِآدابِ الرّوحانِيّينَ يَظهَر لَكُم”.(8) إنّ الكثير من الحقائق الواضحة تصبح مبهمة وبعيدة عن متناول طالب العلم إذا ابتُلي بصفة الكبر أو العجب أو حبّ الدنيا؛ فتعمى عليه أوضح الواضحات نتيجة عمى القلب الناتج عن سوء الخلق. ولمّا كان “التُّقَى رَئِيسُ الْأَخْلَاق”،(9) كما قال أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّ الشرط الأساسيّ للوصول إلى جوهر العلم وروحه يكمن في هذه الصفة الجليلة. وقد جاء في الحديث: “من ازداد علمًا ولم يزدد هدًى لم يزدد من الله إلا بعدًا”.(10) وهل هناك جهل أشدّ من البعد عن الله تعالى؟!
7-المصابرة
المصابرة هي المثابرة (بحسب التعبير الرائج). وهي تحمّل العناء والتعب وكل مقتضيات الوصول إلى الحقيقة على طريق العلم. فمن لم يكن مستعدًّا لهذا الصبر، فمن الصعب أن يدرك العلم الواقعيّ. وقد جاء في حديث النبي الأكرم (ص): “منْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى ذُلِّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً بَقِيَ فِي ذُلِّ الْجَهْلِ أَبَداً(11)”
إنّ المصابرة هي قيمة محوريّة في طلب العلم، لأنّ أحد أهداف العلم أن يكون الإنسان مدركًا لوقائع الحياة. وإنّ من أهم وقائع الحياة الدنيا وجود البلاءات والصّعاب والمصائب فيها. فمن لم يصبر فيها لم يدرك حظّه منها. ولهذا، جعل الله الكثير من العلم في أوضاع صعبة لا يناله إلّا من صبر فيها. وكأنّ الله المربّي أراد بذلك أن يرسّخ فينا ملكة الصبر، فنكون في علمنا منسجمين مع مقتضيات الحياة الدنيا.
ويظهر صبر المتعلّم في سعيه الحثيث وفي سهر الليالي وفي تحمّله للمشقّات وفي إعراضه عن راحة الدنيا وزينتها وزخارفها. فهو أحد طرق ذات الشّوكة التي تنتهي إلى أجمل المقامات. قال الإمام عليّ بن الحسين(ع): “لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، لَطَلَبُوهُ وَلَوْ بِسَفْكِ الْمُهَجِ، وَخَوْضِ اللُّجَجِ، إِنَّ اللَّهَ- تَبَارَكَ وَتَعَالى- أَوْحى إِلى دَانِيَالَ: أَنَّ أَمْقَتَ عَبِيدِي إِلَيَّ الْجَاهِلُ الْمُسْتَخِفُّ بِحَقِّ أَهْلِ الْعِلْمِ، التَّارِكُ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ؛ وَأَنَّ أَحَبَّ عَبِيدِي إِلَيَّ التَّقِيُّ الطَّالِبُ لِلثَّوَابِ الْجَزِيلِ، اللَّازِمُ لِلْعُلَمَاءِ، التَّابِعُ لِلْحُلَمَاءِ، الْقَابِلُ عَنِ الْحُكَمَاءِ”.(12)
الهوامش:
(1){وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُون}. [العنكبوت، 43]
(2)سورة المجادلة، الآية 11.
(3)سورة الغاشية، الآية 23.
(4)نهج البلاغة، الحكمة 104.
(5) الكافي، ج1، ص 34.
(6)الكافي، ج2، ص 217.
(7)الكافي، ج1، ص 45.
(8)قرة العيون للفيض الكاشاني، ص 439.
(9)نهج البلاغة (شرح ابن ابي الحديد)، ج20، ص 47.
(10)تنبيه الخواطر، ج2، ص 21.
(11) بحار الأنوار، ج1، ص 177.
(12) الكافي، ج1، ص 35