السيرة في حركة الإمام المهدي

في الثامن من ربيع الأول عام 260هـ توفي الإمام الحسن العسكري عليه السلام  وظهر ولده الإمام الحجة بن الحسن عليه السلام  فصلى عليه وقابل وفد القميين وتسلّم مهام الإمامة العظمى حتّى يومنا هذا وإلى أن يعجّل الله لوليه الفرج بالظهور، فيبسط العدل ويقمع الظلم والظالمين.

ولم تكن هذه الحالة مألوفة لدى عامة شيعة أهل البيت، حيث كان الناس يسألون الإمام عن الخلف من بعده فيعرفونه في حياة أبيه، إضافة ما تحيطه به العناية الإلهية من العلم والمهابة وظهور المعاجز والاخبار ببعض المغيّبات الدالة على إمامته.

وما عدا السريّة التي أُحيطت بها إمامة الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام  حيث جعله أبوه الصادق عليه السلام  في وصيّته خامس خمسة منهم المنصور والأفطح، فقد توصل الشيعة إلى الدلالة على إمامته عليه السلام  دون عناء، فقد اجتمعت في إمامة الحجة بن الحسن عليه السلام  أسباب عديدة تضفي عليها السرية التامة والتكتّم الشديد أفضت إلى ضبابية واضحة عند عوام الشيعة الذين لم يختصوا بالإمام أو الذين يسكنون الأماكن البعيدة عن مركز تواجده. وقد حظيت هذه الحالة باهتمام أئمة أهل البيت لتهيئة اذهان أتباعهم للتسليم بإمامة الحجة بن الحسن عليه السلام . ويمكن أن نلخّص هذه المعالجات التي تتعلق بهذه المسألة بما يلي:

1ـ ولادته.

2ـ صغر عمره الشريف.

3ـ غيبته.

1ـ ولادته عليه السلام

كانت ولادته عليه السلام  يكتنفها نوع من السرية التامة، حتى أن حكيمة عليها السلام  أخت الإمام الهادي عليه السلام  لم تكن تعلم بشأن الحمل الذي كان لدى (نرجس) أم الإمام الحجة عليه السلام  حين استدعاها الإمام العسكري عليه السلام  ليلاً ولم يكن الإمام العسكري عليه السلام  يصرّح بشأن الإمام من بعده قبل الولادة الميمونة، حتى أن بعض أصحابه عليه السلام  كان يساورهم الشكّ في شأن مَن الإمام بعد العســكري عليه السلام  لأنهم لم يكونوا يعلمون  بولادة الحجّة عليه السلام ، فكيف يكبر وكيف يستلم الإمامة بعد أبيه عليه السلام ، إن الظروف قد تظافرت على الإمام العسكري عليه السلام  ومنعته من أن يصرّح بشيء قبل ولادة ولده الحجّة عليه السلام ، فكانت الولادة سرية جداً كما ذكرنا.

واما الحل الذي وضعه الإمام الحسن العسكري عليه السلام  للتغلب على هذا النوع من السرية، فقد أمر الإمام عليه السلام  أحد أصحابه أن يشتري عشرة آلاف رطل خبزاً وعشرة آلاف رطل لحماً ويفرّقه على الناس وعقّ بكذا وكذا شاة.

وقد جمع خلّص أصحابه وأراهم الإمام عليه السلام  بعد ولادته بأيام وأخبرهم بشأن إمامته، فكانوا على علم بإمامة الحجة عليه السلام .

2ـ صغر عمره الشريف عليه السلام .

إنتقلت الإمامة اليه عليه السلام  وعمره الشريف بين الرابعة أوالخامسة من العمر، وهذا العمر عادة ـ وبحسب عقول الناس العاديين ـ من المستحيل أن يستلم فيه الإنسان أي منصب ديني أو دنيوي، فكان صغر العمر من الموانع المهمة للتصديق بإمامته عليه السلام ، في حين أن أغلب الأئمة عليهم السلام  قد انتقلت إليهم الامامة في عمر يمكن أن يكون مقنعاً لاستلام هذا المنصب الإلهي العظيم.

وقد تكفّل بوضع الحل لهذه المشكلة حالة الإمام محمد الجواد عليه السلام ، فقد انتقلت إليه الإمامة من أبيه الرضا عليه السلام  وقد بلغ السادسة أو السابعة من العمر، وقد ناظر في هذا العمر أيضاً علماء السنّة وظهر عليهم، فبدد الأوهام التي تشك أن الائمة عليهم السلام  كالناس العاديين الذين يحتاجون إلى الدراسة والتعلّم لعشرات السنين حتى يتسنّى لهم أن يستلموا مناصب كهذه.

وكذلك فقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  من طرف بعيد إلى هذه الاطروحة من خلال أقواله صلى الله عليه وآله وسلم  بحق الحسن والحسين التي نستكشف منها وجوب الاتباع، أمثال (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا). وقوله صلى الله عليه وآله وسلم  (إن ولدي هذا سيد) على الرغم من صغر سنّ السبطين عليهما السلام  يومذاك.

3ـ غيبته عليه السلام .

يمكن ان نقول ان للإمام عليه السلام  طوال فترة حياته الشريفة ـ بما فيها فترة طفولته وفترة إمامته ـ ثلاث غيبات(1) متتالية، وهذه الغيبات هي:

1ـ غيبته من حين ولادته إلى غيبته الأولى. فقد كان الإمام العسكري عليه السلام  يخفيه عن نظر العوام من الناس حرصاً عليه لئلا يصاب بمكروه وقد كثرت الروايات التي نقلت إلينا لاثبات وجود الإمام كما كثر المشككون بوجوده عليه السلام ، مما يكشف أن عملية إطلاع الشيعي على الإمام واراءته له كانت لا تتسنى الا لذي حظ عظيم وذي منزلة جليلة عند أبي محمد العسكري عليه السلام . فالإمام في هذه السنين الخمس وإن لم يختف عن الإنظار ولكن الظروف القاهرة دعت والده عليه السلام  إلى إخفائه عن أعين الناس.

وقد وضع الإمام العسكري عليه السلام  الحل لهذه المشكلة عن طريق الظاهرة السابقة الذكر (استدعاء الخلّص من أصحاب الإمام) وإطلاعهم على القضية وجعل الإمام عليه السلام  يحدّثهم في تلك السن الصغيرة ليثبت لهم إمامته.

2ـ الغيبة الصغرى التي امتدّت من 260هـ الى 329هـ ودامت سبعين سنة، وكان فيها الإمام عليه السلام  يراسل شيعته عن طريق السفراء الاربعة (رضوان الله عليهم) وكانوا من الذين لا يُشكّ في أمانتهم. ولم تكن هذه الغيبة من الصعوبة بمكان بحيث تؤثر على نفوس شيعة الإمام، لأن طريقة المكاتبة بين الإمام وشيعته قد ألفها الشيعة وبخاصة في عصر الإمام الهادي عليه السلام  والإمام العسكري عليه السلام ، فكانت هناك تهيئة واسعة النطاق من قبل هذين الإمامين الهمامين عليهما السلام  لتلقّي الشيعة معالم دينهم عن طريق المكاتبات التحريرية وليس مشافهةً من الإمام.

3ـ الغيبة الكبرى. وهي المرحلة الأصعب والأشد على قلوب شيعة أهل البيت عليهم السلام ، حيث أن الإمام لا يشافه شيعته ولا يكاتبهم، بل إنه (روحي فداه) موجود بينهم من دون أن يكون هناك طريق معروف لأخذ الحكم مباشرة منه عليه السلام ، وقد وضع أهل البيت عليهم السلام  لهذه المرحلة الصعبة عدة حلول نلخّصها في ثلاثة.

1ـ الكم الهائل من الروايات التي تبدأ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وتنتهي بالإمام المنتظر عليه السلام  وتمر بجميع الائمة عليهم السلام  التي تشير إلى غياب الإمام الأخير عليه السلام  عن الانظار لفترة طويلة جداً وظهوره في آخر الزمان ليملأ الارض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، وما من إمام إلا وتعرّض لهذه الأطروحة العظيمة على قلوب شيعة أهل البيت عليهم السلام.

2ـ الغيبة الصغرى التي تعتبر ممهّدةً لغيبة الإمام عليه السلام ، فهي نوع من تعليم الناس عدم اللقاء بإمامهم ويضاف إليها البعد المكاني لبعض الأئمة عن شيعتهم من أمثال الرضا عليه السلام  والهادي عليه السلام ، فقد صارت البلاد الاسلامية في عهدهم مترامية الأطراف، ولم يستطع الأغلب من الشيعة الوصول إلى إمامهم، فكانوا قد عوّدوا أنفسهم على البعد عن مصادر التشريع والاكتفاء بالمكاتبات التي تصدر عن الإمام.

3ـ الروايات الكثيرة الصادرة من الإمام المنتظر عليه السلام  التي تشير إلى البديل في عملية التشريع الذي هو (من كان صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه) وهم (رواة حديثنا) وأمره عليه السلام  بالرجوع إليهم، واعطاؤهم منزلة عظيمة (فهم حجتي عليكم) فكانت تلك الروايات هي التي ودّع بها الإمام عليه السلام  شيعته إلى أن يأذن الله بخروجه عليه السلام .

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن (صواتك عليه وعلى آبائه) في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتّعه فيها طويلاً برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

وضاح الحاج مهدي الظالمي

الهوامش

(1)  لمشهور أنّ للإمام الحجّة عليه السلام  غيبتين، إحداهما قصيرة والأخرى طويلة؛ وهاتان الغيبتان تحصلان خلال فترة إمامته الشريفة.

شاهد أيضاً

الإمام المهدي خليفة الله في أرضه(عجّـل الله فرجه)

انّ النعوت التي وردت في وصف الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) كثيرة. وأردت أن أستطرق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *