لفترة طويلة من الزمن كان من الصعب التشكيك بقوة جهاز المخابرات الاسرائيلي “الموساد” وقدرته على تنفيذ عمليات اغتيال بحق شخصيات وطنية لبنانية وفلسطينية أو الضلوع في عمليات إجرامية هنا وهناك، ولكن ما يجري اليوم يجعلنا نبدأ بالتشكيك ليس فقط بـ”الموساد” بل بقدرات الكيان الاسرائيلي ككل.
سبب تشكيكنا يعود إلى البروباغندا التي يقودها الاعلام الاسرائيلي لحفظ ماء وجهه عبر إبراز الدعم والقدرات الأمنية الكبيرة و”الأيادي البيضاء” لجهاز الموساد وإظهاره على انه “حمامة سلام” تؤمن الحماية لجميع “الأصدقاء”، ونذكر مثالا حيا على ذلك تم طرحه يوم أمس في صحيفة يديعوت أحرنوت العبرية التي ذكرت أن وحدة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية “8200”، تمكنت من إحباط عملية خطط لها “داعش” العام الماضي، لتفجير طائرة تابعة لشركة الاتحاد الإماراتية. وأشارت الصحيفة إلى أن الاستخبارات، سمحت بنشر بعض المعلومات حول القضية، موضحة أنه كان من المفترض أن تنفجر الطائرة فوق الأراضي الأسترالية.
ولكي يتم إعطاء هذا الخبر صبغة سياسية وإبرازه بشكل فقاعة أكبر حجما، خرج علينا رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في نفس اليوم ليعلق على هذا الحدث قائلاً خلال كلمة ألقاها أمام مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى: “أحبطت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية إسقاط الطائرة.. كاد هذا أن يسبب قتل عدد لا يقدر من الأبرياء”. وأضاف “وهذا يؤدي إلى خلل هائل في المواصلات الجوية العالمية”. وأشار إلى أن “نجاح القوات الأمنية الإسرائيلية” في إحباط هذه العملية، “يعد واحدا فقط من أصل عشرات العمليات الإرهابية التي أحبطناها في كل أنحاء العالم”.
ولكي يبيض صفحة “الموساد” أضاف نتنياهو: “أعتقد أنه يجب القول كل الاحترام للاستخبارات الإسرائيلية التي لا تحمي المواطنين الإسرائيليين فحسب، بل تحمي أيضا مواطني دول كثيرة أخرى”.
هذا الكلام لم يخرج من باب المصادفة في هذا الوقت بالتحديد، لذلك يدفعنا حديث نتنياهو للتساؤل عن سبب إعلان هذا الخبر بعد عام من حدوثه، ويدفعنا أكثر لنكتب النقاط التالية التي قد تقودنا إلى معرفة مفاتيح الأهداف والدلالات من إعلان هكذا خبر:
أولاً: إظهار “الموساد” بأنه رمز للسلام والدفاع عن الأرواح البريئة ليس بالأمر المقنع، ولا أعلم إن كان نتنياهو حقيقة لديه قناعة بما يقول لأن المسؤولين الآخرين في “اسرائيل” ليس لديهم هذه القناعة، حيث اعترفوا مرارا وتكرارا بتنفيذ الموساد لعمليات اجرامية بحق المدنيين، وبحسب الصحفي والمؤلف الإسرائيلي رونين بيرغمان، فإن جهاز الموساد اغتال ما لا يقل عن 3000 شخص، لم يكن بينهم فقط الأشخاص المستهدفون بل العديد من الأبرياء الذين تواجدوا في الوقت الخطأ وفي المكان الخطأ، وذلك في لقاء أجرته معه صحيفة “شبيغل” الألمانية.
ثانياً: من سوء حظ نتنياهو أن اليوم الذي تحدث فيه عن “عظمة” الموساد في حفظ أرواح الناس، تصادف مع الذكرى 45 لمأساة طائرة مدنية ليبية أسقطتها مقاتلات إسرائيلية فوق سيناء عام 1973 ما تسبب بمقتل 108 أشخاص من ركابها، وبحسب “روسيا اليوم” فقد بررت الحكومة الإسرائيلية فعلتها، التي توصف بأنها قتل جماعي لركاب طائرة مدنية، بالوضع الأمني المتوتر في المنطقة، وألقت باللوم في ذلك على “السلوك العشوائي لطاقم الطائرة الليبية”، وأعلنت على الملأ أنها اتخذت جميع الإجراءات المناسبة بما يتفق مع حقها في الدفاع عن النفس!.
هذا من الناحية الإنسانية للموساد أما من النواحي الأخرى للأسباب الكامنة وراء هذا الإعلان عن أن “الموساد” أحبط عملية لـ”داعش” فيقودنا إلى ذكر النقاط التالية:
أولاً: ما نشرته صحيفة هآرتس الاسرائيلية يوم الاثنين الماضي عن أن “اسرائيل” تعمل على دعم الجماعات المسلحة في سوريا كرد على التواجد الإيراني هناك من خلال القوات الإيرانية وحزب الله- بحسب ادعائها، يكشف لنا زيف ادعاءاتها حول موضوع محاربة داعش، حيث كشفت عشرات التقارير الغربية عن دعم “اسرائيل” اللامحدود للجماعات الارهابية وتقديم السلاح والمال والعلاج الطبي، وهذا الكلام اكدت عليه المحللة السياسية، إليزابيث توسوركوف، التي التقت عبر السنوات السابقة مواطنين ومسلحين سوريين في الجولان، حيث قالت إن حجم التورط الإسرائيلي في سوريا تغير خلال الأشهر الأخيرة بعد نجاحات حكومة الرئيس الأسد في المعارك، وأضافت أن عشرات المسلحين المعارضين الذين تحدثوا معها وصفوا التغير الكبير في حجم المساعدات التي يتلقونها من “إسرائيل”. والأكثر من ذلك أنها قالت إن العديد من المسلحين في الجولان السورية يتلقون الآن ذخيرة وأسلحة من الكيان الإسرائيلي، بجانب المال من أجل شراء السلاح أيضاً.
ثانياً: ما ذكر آنفا يقودنا إلى حقيقة مفادها أن “اسرائيل” فقدت هيبتها بشكل كبير في المنطقة بعد إسقاط طائرة “اف 16” لها من قبل الدفاعات الجوية السورية، ويضاف إلى ذلك عجز الجماعات الداعمة لها عن إحداث أي تأثير فعلي على الأراضي السورية خاصة بعد أن حرر الجيش السوري مساحات شاسعة من البلاد واحبط مشروع التقسيم الذي كانت تحلم به تل ابيب.
ثالثاً: يريد نتنياهو إعادة الهيبة الاسرائيلية وإظهار قوة جهاز الأمن الإسرائيلي “الموساد” عن طريق تقديم معلومات أمنية لبعض الدول لكسب صداقتها وثقتها وإقامة علاقات معها، كما فعلت مع الهند سابقا عندما نقل نتنياهو معلومات إلى نظيره الهندي، ناريندرا مودي، حول خلايا “إرهابية” تعمل في الأراضي الهندية، واليوم الإمارات.
*الوقت