قال الكاتب عزرا كلين في تقرير له على موقع «vox»: «إن الديمقراطيات تسقط عادة عبر الانقلابات العسكرية أو الثورات وأعمال الشغب، وأنها تطلق صيحة مدوية أثناء موتها». لكن ستيفن ليفيتسكي ودانييل زيبلات ذكرا في كتابهما الجديد: «كيف تموت الديمقراطيات»، أن التاريخ أثبت في معظم الحالات «أن الديمقراطيات تموت ببطء لا يكاد يلاحظه أحد»؛ إذ إنها «تفسد بسبب القادة الذين يسيئون استغلالها»، حيث تخضع أرض الديمقراطية الخصبة للتجريف لمدة طويلة.
عندما يقرأ المرء كتاب: «كيف تموت الديمقراطيات»، يتذكر على الفور دونالد ترامب – يوضح كلين – رغم أنه لم يأتِ على ذكره قط. إن انتخاب ترامب هو دليل على مساوئ الديمقراطية الأمريكية. يقدم الكتاب تحليلًا سياسيًا وعلميًا وتاريخيًا للأزمات داخل أمريكا وخارجها، ويغطي الفترة التي سبقت وصول ترامب إلى سدة الحكم وما بعدها، مع تفصيل عميق لهيكل الديمقراطية الأمريكية.
ويوضح كلين أن الكتاب يسلط الضوء على الصراع المحتدم بين الكتلة الجمهورية في «الكونجرس»، و«مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي)» الذي يجري تحقيقًا حول احتمال تدخل روسيا لصالح ترامب في انتخابات الرئاسة. ويؤكد أن «التكتيكات» التي تتبعها الأحزاب للتصدي للمستبدين هي التي تسقط الديمقراطية، وليس المستبدون السبب في سقوطها.
كان زعيم الأغلبية في «مجلس الشيوخ» ميتش ماكونيل قد وصف عام 2017 بأنه الأفضل على كافة الأصعدة خلال العقود الثلاثة السابقة في مسيرته السياسية. وإذا تمعنا في هذا الكلام؛ لعرفنا سبب رغبة الجمهوريين في الدفاع عن ترامب على طول الطريق؛ فهو العام الذي تعرضت فيه وسائل الإعلام لحملة شرسة، وشهد إقالة مدير (إف بي آي)، وتوطدت العلاقات مع روسيا، وزعم فيه ترامب تعرضه للتنصت، وهدد بسجن المعارضين، وأهان المدعي العام، وزعم بحدوث تزوير في التصويت ضده، وعين أشخاصًا غير مؤهلين في مواقع حساسة، وأساء التعامل مع أزمة إعصار بورتوريكو.
يشير الكتاب إلى أنه من أجل صمود الديمقراطية، يتعين تقديم القيم الأساسية على المكاسب السياسية المباشرة، وهو ما تفتقر إليه الديمقراطية الأمريكية حاليًا. ولذلك فهي عرضة للخطر.
الديمقراطية تموت ببطء
بعض القادة المنتخبين في دول، مثل فنزويلا، وجورجيا، والمجر، ونيكاراجوا، وبيرو، والفلبين، وبولندا، وروسيا، وسريلانكا، وتركيا، وأوكرانيا، دمروا المؤسسات الديمقراطية؛ إذ أصبح انهيار الديمقراطية اليوم عبر صندوق الاقتراع.
يؤكد ليفيتسكي وزيبلات أن سقوط الديمقراطيات الحديثة حدث عندما أسقطت الانقلابات العسكرية وعمليات الاستيلاء الفاشية النظم الديمقراطية، ولكن تلك الحقبة قد انتهت. وما يحدث الآن هو أكثر تجليًا، وفي بعض النواحي، أكثر صعوبة للدفاع عنه.
يذكر الكاتبان في كتابهما: «هكذا تموت الديمقراطيات الآن. لقد اختفت الديكتاتورية السافرة في شتى بقاع العالم، وباتت الانقلابات العسكرية العنيفة نادرة. وتجري معظم البلدان انتخابات منتظمة، لكن الديمقراطيات ما تزال قابلة للسقوط، ولكن بوسائل مختلفة. فمنذ نهاية الحرب الباردة، كانت الحكومات المنتخبة هي القائمة على ترسيخ الديمقراطية، لكن بعض القادة المنتخبين في دول، مثل فنزويلا، وجورجيا، والمجر، ونيكاراجوا، وبيرو، والفلبين، وبولندا، وروسيا، وسريلانكا، وتركيا، وأوكرانيا، دمروا المؤسسات الديمقراطية؛ إذ أصبح انهيار الديمقراطية اليوم عبر صندوق الاقتراع».
إن الديمقراطية تموت بشكل تدريجي – ينوه كلين؛ إذ يصعب محو الخطاب الديمقراطي، والهوية، التي يعتمدها الشعب الديمقراطي. في عام 2011 بعد فترة طويلة من ميل فنزويلا نحو الاستبداد قال غالبية الفنزويليين إنهم يعيشون في ديمقراطية نشطة ومزدهرة. وهنا تتجلى عبقرية الطغاة الحديثة في أنك لا تحتاج إلى وأد الديمقراطية، وإنما التلاعب في جذورها.
ويضيف الكتاب: «تتبع الحكومات أساليب قانونية لتخريب الديمقراطية تحظى بموافقة السلطة التشريعية والمحاكم، بل يجري تصويرها على أنها جهود لتحسين الديمقراطية، ومكافحة الفساد، ولكن يجري ترهيب الصحف أو شراؤها. وإذا انتقد المواطنون الحكومة فغالبًا ما يعاقبون بغرامات أو مشاكل قانونية أخرى. وهذا يزرع الارتباك العام؛ إذ لا يدرك الناس على الفور ما يحدث، ويظل الكثيرون يعتقدون أنهم يعيشون في ظل الديمقراطية».
لتحقيق ذلك – يضيف كلين – يتحالف أعداء الديمقراطية مع الأحزاب التقليدية والسياسيين الذين يحاولون استيعاب حركتهم، وهذا أهم درس في الكتاب بالنسبة إلى الولايات المتحدة في عام 2018؛ حيث تصمد الديمقراطيات عندما يتمسك المشاركون فيها بالحفاظ على النظام، ويمنحونه الأولوية على المكاسب السياسية على المدى القصير.
المشكلة هنا – حسب كلين – هي أن المحيطين بالمستبدين لا يرون الأمر على هذا النحو. وإنما يرون أنفسهم على أنهم الساسة الحكماء القادرون على تثقيف أو تحييد منافسي النظام، مع تسخير الطاقة الخارجية، وأنصارهم من أجل تحقيق أهدافهم الخاصة.
المثال الأوضح على ذلك هو صعود أدولف هتلر، الذي تم بدعم من ائتلاف من المحافظين الذين ظنوا أنهم يستطيعون السيطرة على المستشار الذي لا يتمتع بالخبرة. قال فرانز فون بابن، صاحب الخطة متفاخرًا: «لقد تعاونا معه من أجل أنفسنا. وفي غضون شهرين سنحاصره في الزاوية، ونسكته تمامًا». كان حلفاء هتلر يعيدون مأساة شائعة. ينقل ليفيتسكي وزيبلات عن رافائيل كالديرا، الرئيس السابق لفنزويلا، الذي ساعد هوجو شافيز على الوصول إلى الحكم قوله: «لم يعتقد أحد أن السيد تشافيز لديه الفرصة في أن يصبح رئيسًا».
مشكلة أمريكا ظهرت قبل دونالد ترامب بمدة طويلة
تسببت حرب القضاء على الرق في تدمير الديمقراطية – إذ تم تعليق أمر الاستدعاء أمام المحكمة، واستبعدت ثلث الولايات الأمريكية من الانتخابات عام 1864، ورزح الجنوب تحت الاحتلال العسكري.
يذكر كل من ليفيتسكي وزيبلات في كتابهما «ثمة معياران رئيسان حافظا على الضوابط والتوازنات الأمريكية بسبل باتت أمرًا مفروغًا منه بالنسبة إلينا. هما التسامح المتبادل، أو إدراك أن الأحزاب المتنافسة تتقبل وجود بعضها البعض، أو فكرة أن السياسيين يجب أن يمارسوا ضبط النفس في استخدام صلاحياتهم المؤسسية. وقد عززت هاتان القاعدتان الديمقراطية الأمريكية في معظم فترات القرن العشرين».
لا جدال في أن هذين المعيارين ينحدران الآن – يشدد كلين. كان هناك 385 من العراقيل في مجلس الشيوخ بين عامي 2007 و2012 – أي ما يعادل عدد العراقيل في العقود السبعة الممتدة بين الحرب العالمية الأولى، ونهاية إدارة ريجان. وقد تسبب ذلك في تراجع عدد التعيينات في محكمة الدائرة، التي تجاوزت 90% في الثمانينات، إلى حوالي 50% خلال رئاسة باراك أوباما
في عام 2013 عندما توفي القاضي أنطونين سكاليا، رفض زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، حتى عقد جلسة للنظر في تعيين ميريك جارلاند، اختيار أوباما ليحل محله.
يقدم الكتاب تحليلًا واضحًا للسبب الذي يجعل هذه المعايير محاصرة في أمريكا – يواصل كلين كلامه – إذ يسلط الكاتبان الضوء على جزء من التاريخ الأمريكي: لقد بنيت الديمقراطية على العنصرية، وتزعزعت مرارًا وتكرارًا. كانت الأفكار الرئيسة تشمل ترسيخ العبودية واعتبار الأمريكيين الأفارقة كمواطنين درجة ثانية. وقد تسببت حرب القضاء على الرق في تدمير الديمقراطية – إذ تم تعليق أمر الاستدعاء أمام المحكمة، واستبعدت ثلث الولايات الأمريكية من الانتخابات عام 1864، ورزح الجنوب تحت الاحتلال العسكري.
وفي أعقاب الحرب الأهلية، كان السعي لتحقيق المساواة له الأسبقية على السعي لتحقيق الاستقرار – وخلال مرحلة بناء الدولة، وحتى منتصف القرن العشرين، سمح الديمقراطيون والجمهوريون للجنوب بإنشاء دولة الفصل العنصري بشكل قانوني، وكان ذلك هو العصر الذهبي للسياسة الأمريكية، الذي عمل فيه الطرفان معًا بسلاسة وبشكل روتيني.
وقد أبدع كل من ليفيتسكي وزيبلات في سرد هذه القصة: «إن نظامنا السياسي قائم على أساس نبذ العنصرية. وكان الاستقرار الذي شهدناه في الفترة ما بين نهاية بناء الدولة والثمانينات متأصلًا في خطيئة أصلية: تسوية عام 1877، وما أعقبها، والتي سمحت بإزالة الديمقراطية في الجنوب وترسيخ حكم جيم كرو. وقد ساهم الإقصاء العنصري بشكل مباشر في التماسك والتعاون بين الحزبين اللذين قادا السياسة الأمريكية في القرن العشرين. وظهر (الجنوب المتماسك) كقوة محافظة قوية داخل الحزب الديمقراطي. وقد حد التقارب الأيديولوجي بين الديمقراطيين الجنوبيين والجمهوريين المحافظين من الاستقطاب، وسهل التعاون بينهما».
أدى ضمان بعض الحقوق المدنية للسود إلى سلسلة من الاغتيالات السياسية، وانتخاب ريتشارد نيكسون – الذي تسبب بسرعة في أزمة ديمقراطية ودستورية، ولكن تم التراجع عن الكثير من الحقوق المدنية، واستقرت الديمقراطية الأمريكية، وظلت كذلك حتى انتخاب الرئيس باراك أوباما – يكشف كلين – مما أدى إلى مواجهة مع الحزب الجمهوري، وربما – بشكل ما – إلى انتخاب دونالد ترامب، الذي يجمع بين العنصرية والطعن في العملية الديمقراطية وشرعية خصومه.
إن زيادة الاستقطاب في اللحظة الحالية هو تحول عميق في التحالفات السياسية وحول ذلك يذكر الكتاب: «زادت نسبة المصوتين من السود لصالح الديمقراطيين إلى 44% بحلول عام 2012، بينما لم تتعد النسبة 10% لصالح الجمهوريين. يقول أستاذ العلوم السياسية، ألان أبراموفيتز: إن المسيحيين البيض شكلوا الأغلبية الكاسحة من الناخبين في منتصف القرن الماضي، وقد توزعوا على الحزبين، لكن النسبة انخفضت إلى 40% مع الألفية الجديدة، ومعظمهم يؤيدون الحزب الجمهوري».
وهنا يؤكد مؤلفا الكتاب أن الحزبين متعارضان من ناحية العرق والدين، وهو ما قد يفاقم من الاستقطاب والعدائية حول ملفات حساسة، مثل الضرائب والإنفاق الحكومي. وهذا هو السبب الذي يجعل من الصعب على الأمريكيين تحمل بعضهم البعض، ويضع حواجز أمام تعاون الحزبين. وقد أظهر استطلاع للرأي جرى مؤخرًا أن حوالي نصف أعضاء الحزبين ينظرون بعين الريبة إلى الطرف المقابل. لنتأمل النص التالي:
إذا كان وصف الأمريكيين يقتصر على المسيحيين البيض المولودين في أمريكا، فإن حجم هذه الفئة يتناقص. ومثلما تقول الجمهورية آن كولتر: «إن القاعدة الانتخابية الأمريكية تتآكل». وهو ما جعلهم يرفعون شعارات مثل: «لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا». وهكذا فهم يعتبرون الديمقراطيين أمريكيين غير حقيقيين.
ظاهرة ترامب عرَض وليست سببًا
إن الشقوق في السياسة الأمريكية، والغضب والخوف الذي نشعر به تجاه بعضنا البعض، والتصدعات التي سيسببها التغيير الديموغرافي في النظام، كل ذلك يسبق ترامب، وسيظل قائمًا بعده.
يؤكد كلين أن الكتاب يحتوي على الكثير من الصفات التي نراها في ترامب؛ فالأخير تنطبق عليه كل صفات القادة المستبدين، لكنه يفتقر إلى المنهج والقدرة للقضاء على الديمقراطية الأمريكية. وهذا أمر يدعو إلى التفاؤل، لكن الكتاب يحذر من مخاطر اللجنة الاستشارية الرئاسية بشأن نزاهة الانتخابات، التي تشكلت لإثبات أن ترامب فاز بالتصويت الشعبي، ويبدو أنه يتنبأ بجهود جديدة واسعة النطاق لحرمان الناخبين السود من التصويت، لكن الرأي العام – باستثناء الجمهوريين – ثاروا ضد طلب اللجنة بيانات عن الناخبين وجرى حلها في نهاية المطاف.
يقول كلين إنه أحيانًا يتخيل تحول أمريكا إلى دولة ديكتاتورية يرأسها ترامب، على الرغم من أنه يرى أن وصول الأخير إلى سدة الحكم لم يكن حدثًا مأساويًا بالكامل، إلا أن التحولات التي شهدتها أمريكا في السنوات القليلة الماضية لا بد أن تثير القلق، ولكن ماذا لو كان ترامب ديكتاتوريًا ذكيًا، وليس فوضويًا سليط اللسان مثلما هو الآن؟ يتساءل كلين. وماذا لو كان الفائز في السباق الرئاسي الماضي هو الجنرال جون كيلي، الذي يشترك مع ترامب في الكثير من الخصال، لا سيما توجسه من الأعداء الخارجيين، وتبجحه بوطنيته؟
يرى كلين أن أكثر ما أثار قلقه في عام 2017 هو رد سارة ساندرز – السكرتيرة الصحافية للبيت الأبيض – على سؤال من صحافي حول كذبة فجة من كيلي؛ إذ كان ردها: «إن من المشين مجادلة جنرال يحمل أربعة نجوم». هكذا تموت الديمقراطية. إن الشقوق في السياسة الأمريكية، والغضب والخوف الذي نشعر به تجاه بعضنا البعض، والتصدعات التي سيسببها التغيير الديموغرافي في النظام، كل ذلك يسبق ترامب وسيظل قائمًا بعده.
ينهي كلين مقاله بفقرة من كتاب ليفيتسكي وزيبلات تمنى لو أنه لم يقرأها: «إن الحقيقة الواضحة هي أن العالم لم يشهد قط ديمقراطية متعددة الأعراق لا تكون فيها مجموعة عرقية هي الأغلبية، وتسودها العدالة الاجتماعية». ويعلق كلين: ربما تكون أمريكا أول دولة يقام فيها نظام كالمذكور آنفًا، ولكن على الأمريكيين الحذر من الفشل. فالخطر المحدق بالولايات المتحدة يمس ديمقراطيتها.
مترجم عنHow democracies die, explainedللكاتب Ezra Klein