مع كل حدث كبير له علاقة بالقضية الفلسطينية تتجدد المطالبات والحملات العربية بمقاطعة المنتجات الأمريكية والإسرائيلية المنتشرة في الأسواق، وهو نفس الأمر الذي تكرّر بعدما أعلن الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» مؤخرًا الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، إذ باتت المقاطعة من أهم المواد الإعلامية التي يتحدث عنها الإعلام العربي، وذلك إما عن طريق حصر قيم الخسائر المتوقعة للاقتصاد الأمريكي والإسرائيلي، أو من خلال إعداد قائمة بالمنتجات الأمريكية والإسرائيلية المشهورة لدعوة الشعوب العربية لمقاطعتها كما يحدث مع كل أزمة، ولكن النهاية النتيجة واحدة؛ فشل حملة المقاطعة.
وبالرغم من عدم نجاح المقاطعة في تحقيق أي انتصار سياسي يذكر في السابق، إلا أنها تعتبر أحد الأسلحة التي دائمًا ما يلوح بها العرب لمواجهة القرارات السياسية أو الاعتداءات الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، فبعد ساعات من القرار الأمريكي؛ دعت عدة نقابات مهنية إلى تفعيل مقاطعة أمريكا والاحتلال الإسرائيلي، وخرجت هذه الدعوات من معظم الدول العربية وعلى رأسها مصر والأردن، ولكنها تظل دعوات فردية وبدون تنسيق عام، وهو الأمر الذي يساهم في غياب تجسيد فعليّ لهذه الحملات.
يرى «مدحت نافع» الأكاديمي المصري، وعضو اتحاد البورصات العالمية، أن مقاطعة المنتجات بوصفها سلاحًا لمعاقبة أطراف بعينها على قرارات سياسية خاطئة لم تعد سهلة، وذلك لسببين رئيسين؛ أولًا: لكي تقاطع يجب أن تكون لديك القدرة على توفير البديل، وأن تملك المنتج المحلي المناسب لذلك، وثانيًا: عليك القيام بعملية فرز عالية التعقيد للتعرف بدقة على الطرف الذي يتحمل الجانب الأكبر من خسائر المقاطعة.
وتابع «نافع» خلال حديثه لـ«ساسة بوست» حول الموضوع نفسه: «ربما لو دققت النظر في بعض المنتجات التي ينادي الناس من أجل مقاطعتها عقابًا لأمريكا وإسرائيل؛ لوجدت خلفها مستثمرين عربًا هم أكثر المتضرّرين من خسائر هذه المقاطعة، إذ إن العلاقات المتشابكة في عالم أشبه بقرية صغيرة تجعل من المقاطعة سلاحًا ذَا حدين، وعليك استخدامه بحرص».
في السطور القادمة سنحاول ذكر أبرز الأسباب الرئيسية لفشل العرب في مقاطعة المنتجات الأمريكية والإسرائيلية من وجهة النظر الاقتصاديّة البحتة، دون الحديث عن الجوانب السياسيّة والعلاقات الرسميّة التي تربط هذه البلدان.
تضخم الواردات
من المعلوم أن الدول العربية تعتمد على الاستيراد لتلبية معظم احتياجاتها، وبشكل خاص نجد واردات المنطقة العربيّة من كل من أمريكا وإسرائيل مرتفعة للغاية، إذ كشفت بيانات التقرير العربي الموحد الصادر عن «صندوق النقد العربي» أن حجم الواردات العربية من الولايات المتحدة الأمريكية يبلغ نحو 71.4 مليار دولار، بما يعادل 8.6% من إجمالي الواردات البالغة 830.9 مليار دولار، وذلك في العام 2015. ولكن هذه النسبة ارتفعت بشكل ملحوظ خلال العامين الماضيين، فعلى سبيل المثال: أظهرت بيانات دائرة الإحصاءات الأردنية العامة – كما هو موضح بالجدول – أن قيمة واردات الأردن من البضائع الأمريكية قد قفزت خلال الأشهر التسعة الأولى من 2017 بنسبة 67.6%، لتبلغ نحو 1.1 مليار دينار أردني، وهو ما يكشف النمو السريع لواردات البلدان العربية من المنتجات الأمريكية.
وعلى مستوى التبادل التجاري المعلن وغير المعلن بين الدول العربيّة والاحتلال الإسرائيلي، تشير تقديرات إلى أنها تدور حول 9% من إجمالي التجارة العربية السنوية مع دول العالم، وهو ما يوازي نسبة التجارة البينية العربية، وكانت هذه التقديرات عن عام 2015. ومن المرجح أن تكون هذه النسبة قد ارتفعت بشكل ملموس، وذلك في ظل اتجاه بعض دول المنطقة للتطبيع مع إسرائيل.
ولا يندرج تحت هذه الأرقام واردات السلاح، وهو جانب لا يمكن إهماله، خاصة بعد زيارة الرئيس الأمريكي للسعودية، التي تم خلالها توقيع عقود تسليح أمريكية للمملكة العربية السعودية فقط بقيمة 110 مليارات دولار، كما أن بيانات نشرتها وزارة التجارة الخارجية البريطانية كشفت عن وجود خمس دول عربية ضمن قائمة الدول العشر الأكثر استيرادًا للسلاح في 2016، جاء أغلب هذه الأسلحة من أمريكا، إذ جاءت السعودية في المقدمة بواردات أسلحة تعادل 13% من مجمل صادرات الولايات المتحدة من الأسلحة، ثم الإمارات بـ8.72%، والعراق بـ5.44%، ثم مصر التي اشترت 3.57% من صادرات الأسلحة الأمريكية، بمجموع صفقات ناهزت 17.2 مليار دولار.
وتكشف الأرقام السابقة أن الدول العربية تعتمد بشكل أساسي على أمريكا وإسرائيل في تلبية الكثير من احتياجاتها، وهو الأمر الذي يجعل الاستغناء عن هذه المنتجات صعبًا، ممّا سيعيق بشكل كبير نجاح حملات المقاطعة.
ضعف التنافسية والمصالح
تعاني منتجات معظم الدول العربية من تدني درجة القبول العام، مما يجعلها تفقد الكثير من قوّة التنافس أمام منتجات الدول الأخرى، وفي ظل غياب البديل الذي يحمل نفس الجودة أو جودة قريبة من المنتج المستورد من أمريكا وإسرائيل؛ يكون من الصعب على المستهلك الاستغناء عن السلع المقررة مقاطعتها، وهو ما يساهم في فشل فكرة المقاطعة على المدى الطويل.
وعلى الجانب الآخر، بات هناك تداخل كبير في المنطقة العربية بين رجال الأعمال والحكومات، وهو ما يجعل القرارات الحكومية في الغالب مرتبطة بمصالح رجال الأعمال، ومن المؤكّد أن حملات المقاطعة ستضر بهؤلاء المستوردين وتؤثّر على مداخيلهم، لذلك تحجم الدولة عن اتخاذ موقف حقيقي حفاظًا على مصالح رجال الأعمال.
وفي سياق مرتبط بفكرة المصالح، نجد أن مصر وقَّعت في 14 ديسمبر (كانون الأول) 2004 مع الولايات المتحدة وإسرائيل اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة «الكويز»، التي تنص على فتح الأسواق الأمريكية للمنتجات المصرية المصنّعة في المناطق الصناعية المؤهلة دون تحديد حصص، أو فرض رسوم جمركية، بشرط أن تتضمن هذه المنتجات مدخلات إنتاج إسرائيلية بنسبة 10.5%، وما ينطبق على مصر بخصوص اتفاقية «الكويز»، ينطبق على الأردن أيضًا لأنها قامت بتوقيع اتفاقية مشابهة مع الولايات المتحدة وإسرائيل. ولا يتوقع أن تقوم حكومات كل من مصر والأردن بوقف التعامل بالاتفاقية أو الانسحاب منها بدعوى عدم الإضرار بالوضع الاقتصادي، ولكن اقتصاد الاحتلال يستفيد في الواقع أكثر من هذه الاتفاقية.
التعاون السري
«ما كنّا لننجح لولا السرية التامة»، هكذا قال المدير العامّ لشركة «عرب ماركت» الإسرائيلية «إليران ملول»، عن حجم نشاط الشركات الإسرائيلية في دول الخليج، مضيفًا: «تُعقد التجارة مع الدول العربيّة تحت غطاء ثقيل من السرية، حتى أن إسرائيل ليس لديها معطيات دقيقة حول حجمها». والأكيد هو أن هذا الأمر هو آفة التعاملات العربية مع الاحتلال الإسرائيلي بشكل أساسي، فكثير من الدول العربية لا تكشف عن أرقام التبادل التجاري كالسعودية مثلًا، وغالبًا لا يتم كتابة اسم البلد المنتج الحقيقي على المنتجات، وهو ما يساهم بشكل كبير في فشل المقاطعة، لأن المستهلك لا يعرف الدولة المنتجة الحقيقيّة بسبب غياب الشفافيّة والتّخفي الإسرائيلي.
هذا النوع من التعاون وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو» بأنه: «تعاون لم يسبق حدوثه في تاريخ إسرائيل»، قائلاً: إن هناك تعاونًا على مختلف المستويات مع الدول العربية التي لا يوجد بينها وبين إسرائيل اتفاقيات سلام، مشيرًا إلى أن «هناك تعاونًا بطرق مختلفة وعلى مختلف المستويات مع الدول العربية، لكنه ليس في مرحلة الظهور العلني بعد»، وأضاف «الأمور الحاصلة بصورة غير معلنة هي أوسع نطاقًا إلى حد كبير من أي حقبة مضت في تاريخ دولة إسرائيل».
أسباب أخرى
ويتحدث «مصطفى عبد السلام» الكاتب الصحفي المتخصص في الشئون الاقتصادية، ورئيس قسم الاقتصاد بصحيفة «العربي الجديد» اللندنية، عن عدة أسباب أخرى للفشل العربي في مقاطعة المنتجات الأمريكية بشكل عام والغربية بشكل خاص، الأول: هو عدم وجود خطة منظمة للمقاطعة، فأغلب الحملات تكون نتيجة انفعالات عاطفية، أو بسبب حالة غضب من قرار أمريكي، وما أن تمر الأيام حتى ينسى العرب الموقف والمقاطعة.
وتابع عبد السلام خلال حديثه لـ«ساسة بوست»: إن السبب الثاني يكمن في حالة التشابك الشديدة بين المنتجات الأمريكية والأسواق العربية، فهذه الأسواق تعتمد بشكل كبير على المنتجات الأمريكية، وبالتالي يظن كثيرون أن المقاطعة ستضر بالمستهلك العربي وسترفع الأسعار، فيما يرى أن السبب الثالث: هو عدم وجود مؤسسات مجتمع مدني تعرّف المقاطعين ببدائل المنتجات الأمريكية، أو تحدد لها أصلًا ما هي المنتجات التي ستقاطعها وأسماؤها وبدائلها.
ويرى الخبير الاقتصادي أن على العرب أن يستفيدوا من حملات عالمية ناجحة لمقاطعة منتجات الدول التي تلحق بهم الأذى سياسيًّا أو اقتصاديًّا، منها مثلًا حركة المقاطعة الدولية «BDS»، والتي حققت نجاحات قوية في السنوات الماضية لدرجة أنها باتت هدفًا مستمرًا لحكومة الاحتلال الإسرائيلي.
يشار إلى أن «حركة BDS» من بين أشهر حملات المقاطعة ضد إسرائيل وأنجحها، إذ كلفت الأخيرة مليارات الدولارات، كما ساهمت في إلغاء عدة عقود لشركات دولية كبرى مع إسرائيل نتيجة الضغوط التي مارستها الحركة، مما جعل الحكومة الإسرائيليّة تعلن خطّة لمجابهتها في مختلف أنحاء العالم، كما حذّرت هيلاري كلينتون المرشّحة الرّئاسيّة الأمريكيّة السابقة من تمدّد هذه الحركة وأثرها السيّئ على اقتصاد الاحتلال الإسرائيليّ.
أحمد طلب