في الوقت الذي كان فيه الرئيس بشار الأسد يزور دير الصليب في صيدنايا، كان رجال الجيش العربي السوري يواصلون بنجاحٍ عمليةَ استكمالَ السيطرةِ الكاملة على مدينة دير الزور بعد فكِّ الحصار عنها.
بين «الديرَين» وطنٌ يكتب بدماءِ وإصرار أبنائهِ حكايا انتصاراتٍ أشبهَ بالأعاصير، وإن كانت الأعاصير التي هي نتاج الطبيعة تجرف كل ما أمامها، فإن أعاصيرَ الانتصاراتِ السورية التي لن تأتي بعد اليوم فُرادى، تنتقي أهدافها بعنايةٍ، ليس لأنها خارج حدود الطبيعة، بل لأنها داخل حدود الوطن والانتماء.
إن الحديث عن أعاصيرِ الطبيعة يقودنا لكلامٍ قالتهُ بالأمس الممثلة الأميركية جنيفر لورنس، عندما أرجعت ما تتعرض له الولايات المتحدة من أعاصير لما سمته «غضب الطبيعة الناتج عن تولي (دونالد) ترامب للرئاسة».
ربما أن لورنس أرادت أن تتلو فعل الندامة بالنيابة عن شعبها مسبقاً، دون أن تحذو حذوَ المسؤولين الغربيين الذين لا يتلونَ فعلَ الندامة عادةً على ما يقترفونهُ من جرائم، إلا بعدَ أن يغادروا مناصبهم، والأمثلة كثيرة قد تبدأ برئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، والرئيس الأميركي السابق باراك أوباما ولا تنتهي بالسفير الأميركي السابق في دمشق وبطل مظاهرات ساحة العاصي في حماة، روبرت فورد، الذي بدا في حديثهِ التلفزيوني الأخير وكأنه يقول: اللعبة انتهت.
ربما من سوء حظه وحظ من رفع مثله شعار «إسقاط دمشق»، أنهم لم يأتوا في زمن الأسطورة الإغريقية «بروميثيوس» الذي كان مستشاراً للإله «زيوس»، واشتُهر بالتنبؤ بالمستقبل ليخبرهم أن روسيا ستُرسل قوات لسورية، والجيش العربي السوري سيصل لكل شبرٍ من أراضي وطنه، وأن المعارضة السورية التي يبنون عليها أحلام وراثة مفاتيح دمشق مجردَ وهم، فسقطوا جميعهم ولم تسقط دمشق، وفاتهم أن «عدالة السماء» التي تحدثت عنها لورنس لابد لها يوماً أن تتجلى بصورةٍ ما، لكن ما فات الممثلة الأميركية، أن الجرائمَ الأميركية سابقة لعهدِ الرئيس الأميركي الحالي ترامب بقرون، بل بدأت مع إبادة السكان الأصليين لتولد إمبراطورية الشيطان، أي إن نهر الدماء الذي تغذيه الولايات المتحدة مازال يفيض مع كل فصلٍ من فصولِ «نقل الديمقراطية» أو عواصف «البحث عن أسلحة غير تقليدية» والختام مع «أعاصير جلب الحرية»، هي متواليةٌ لا يمكن أن يكونَ لها حل أساساً إلا عدالةَ السماء القادمة مع «غضب الطبيعة»، لكن إن كان ما ينتج عن غضبِ الطبيعة يمكن حلَّه عبر إعادة الإعمار الذي تتبناه مسبقاً ممالك البترودولار، فمن سيكون قادراً على حل الأعاصير السياسية التي ضربت بنجاحٍ المشروع الأميركي في المنطقة؟
لم يكن خروج الملف الكوري الديمقراطي رسمياً من يد الولايات المتحدة هو الإعصار الأول، بل إن الانجازات التي يحققها الجيش العربي السوري على الأرض هو الإعصار الأول الذي يتبعه باقي الأعاصير، فانتصار دير الزور فتحَ الباب على مصراعيه لكل الاحتمالات القادمة، بمعنى آخر، بات الأميركي فعلياً أمام خيارات هي الأقل له منذ بدء الحرب على سورية قبل سبع سنوات، وإذا كان اللعب بورقةِ إدلب عبر إعادة مد جسور الثقة مع رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان مستحيلاً، لأن الخزان الإرهابي الذي تشكله المدينة الآن لا يقدم للولايات المتحدة نقطة ارتكاز جدية لإعادة بلورة نظرتها للحل السوري، كما أن فتح قنوات الاتصال مع أردوغان ستعني حكماً التخلي عن الحليف الكردي وهذا لا يبدو ممكناً في الوقت الحالي، ما يعني أن الأميركي بقيت له ورقة وحيدة سيركز عليها في الأسابيع القادمة وهي «إسرائيل الشمال» لرسمِ حدودٍ أشبه بالطبيعيةِ بين شمال نهر الفرات وجنوبه، أي إنهم سيسعون جاهدين لإيصال الانفصاليينَ إلى الضفة الشمالية لنهر الفرات، أما الجيش العربي السوري فبدا واضحاً أن انتصاره في دير الزور لن يكتمل حتى عبور قواته إلى الضفة الشمالية للنهر وتأمينها بالسيطرة على مساحات شمالها.
قد لا نبالغ إن قلنا إن هذا العبور لا يقل أهمية عن عبور خط «ألون» على جبهة الجولان خلال حرب تشرين التحريرية، لأنه في الحالتين عبورٌ من أجل الحفاظ على وحدةِ سورية، لذلك فإن السباق في الأسابيع القادمة سيكون محموماً تحديداً أن انفصالي «إسرائيل الشمال» يغامرون بالمجهول، فإذا كانوا في الحسكة أو القامشلي مثلاً يتذرعونَ بوجودِ نسبة أكبر من الأكراد ليبرروا مطالبهم، فما ذريعتهم في ريف دير الزور الشرقي والشمالي، هل يظنون مثلاً أن قيام الأميركيين بنقل إرهابيي «التنف» للشمال السوري لزجهم بالمعركة سيسهم بتعديل التكوين العشائري أو العرقي لميليشيا «قوات سورية الديمقراطية»؟!
أما الإعصار المتجدد فهو المتعلق بدخول الخلاف الخليجي الخليجي مرحلة جديدة تبدو أكثر شراسة، فكنا دائماً نكرر عبارة أن هذا الخلاف مضبوط بالإيقاع الأميركي لأنه يحتاجه في تطبيق مبدأ «الاستثمار في الفوضى»، لكن يبدو أن الوهن السياسي الأميركي الحالي أو ما سميناه قبل أيام «الاحتضار السياسي» الذي تعيشه الإدارة الأميركية، قد يدفع البعض من هؤلاء للتمرد، وهذا الأمر يثبته ما حدث بالأمس وقبل أمس؛ فأمير مشيخة الكويت الذي يرفع حالياً راية الوساطة قال من واشنطن: إن القطريين قبلوا تلبية المطالب الثلاثة عشر وارتفعت حدة التفاؤل بعد الإعلان عن الاتصال الهاتفي الذي أجراه أمير مشيخة قطر بولي عهد «آل سعود»، هذا الاتصال وإن كان في الشكل، بدا وكأنهُ نتاج زيارة أمير الكويت لواشنطن ونجاح وساطته ولو جزئياً، إلا أنه في المضمون عكس حجم ما وصلت إليه العلاقة الخليجة الخليجية، و«زاد الطين بلة» لأن هناكَ عدة تناقضاتٍ لابد مني الالتفات إليها:
أولاً: إن الاتصال تم بين أمير المشيخة وولي عهد المملكة، وهو أمر مستغرب إذ إن الطبيعي أن يتم الاتصال بين أمير المشيخة وملك «آل سعود» احتراماً للأعراف الدبلوماسية، حتى لو كان «ملك الزهايمر» لا يعرف من يكلمهُ، كان من الممكن إخراج الموضوع بطريقةٍ أكثر حرفية على مستوى الاتصال الأول بعد القطيعة، لكن هل هناك فعليا من تعمد إذلال أمير قطر بإجباره على الاتصال، وأن يكون الاتصال مع الرجل الثاني نظرياً في المملكة؟
ثانياً: الأمر متعلق بطبيعة الاتصال الذي أحدث أزمة تزيد عن سابقتها، ففي الوقت الذي أعلن «آل سعود» أن الاتصال جاء بطلبٍ من أمير قطر قال الإعلام القطري: إن الاتصال أكد أهمية الجلوس على مائدة المفاوضات، هذه العبارة على بساطتها جعلت «آل سعود» يثورون غضباً ويصبون جام غضبهم الإعلامي على المشيخة من جديد رغم أن الأمر لا يستحق، هذا التخبط يثبت لنا أن هناك ملفات كثيرة خرجت فعلياً من يد الولايات المتحدة كدولة راعية، بل قد لا نبالغ إن ذهبنا بعيداً وقلنا إن سعي «آل سعود» لإيجاد مرتكزات بديلة يفسر لنا ما نقلته تقارير إعلامية عن زيارةٍ قام بها أمير سعودي إلى “إسرائيل” قد لا يطول الوقت لكي تظهر نتائجها، فماذا ينتظرنا؟
دائماً ما نقول: إن الهم والاهتمام هو للساحة السورية، ومن الواضح أن ما يجري الآن في الإطار العام يصب نحو التهدئة، وهي تهدئةٌ ليست مرتبطة بما يحققه الجيش العربي السوري من نجاحات في الميدان فحسب وإقرار الجميع ولو ضمنياً بالهزيمة، عدا “إسرائيل”، التي كانت ولا تزال لن تقر بالهزيمة حتى لو بقي إرهابي واحد في سورية يخدم مصالحها، لأن تصفية هذا الإرهابي وحده من سيجعل عقارب الساعة تدور باتجاه نهايتها، لكنها مرتبطة كذلك الأمر بالإطار الأشمل من بينها ما حُكي عن طلب «آل سعود» من الإعلام المرتبط بهم بأن القادمات من الأيام ستحمل طريقة جديدة في التعاطي بالعلاقة مع إيران.
هذا الأمر قد ينعكس على كل ما يمت بصلةٍ للاجتماعات المتعلقة بإيجاد حلٍ سياسي لما يجري في سورية، لكن الانعكاس الايجابي ليس وفق ما يتمناه أصحاب العقول المؤجَّرَة ولكي تتضح الصورة أكثر:
قبل أيام كتب أحد معارضي الفنادق السوريين ممن كانوا أحد رموز الفساد والسلطة في سورية على صفحته مستذكراً ما قاله السفير فورد عشية تشكيل الائتلاف السوري عام 2012 بأن «كل من ليس في الائتلاف سيكون خارج السياسة السورية»، المعارض السوري الذي بدا وكأنه يتلو فعل الندامة كمعلميه قال: «يبدو أن كل من داخل الائتلاف يجب أن يكونوا خارج السياسة السورية»؛ لكن لهذا المعارض ولكل النادمين أمثاله نقول: إن كل من لم يقرّ بالانتصار السوري سيكون خارج السياسة السورية، ألم نقل لكم إن الأعاصير لن تأتي فرادى!.
فراس عزيز ديب – الوطن