أثبت أكثر المسلمين العصمة للأنبياء عن جميع الذنوب , ولكنهم لم يلتزموا بها لهم في جميع الحالات .
فالمعتزلة: جوزوا عليهم الصغائر من الذنوب سهواً وتأويلاً .
أما الأشاعرة: فقد جوزوا عليهم الكبائر والصغائر سهواً , إلا الكفر والكذب , ووافقهم على ذلك الحشوية من المحدثين , لأن جواز الكذب عليهم يؤدي إلى إبطال رسالتهم , وإن كان المنسوب إلى القاضي أبي بكر الباقلاني جوازه سهوا ونسيانا , لأن ذلك لا يستلزم جواز كذبهم فيما يخبرون به في حال التفاتهم وتذكرهم .
أما الكفر فقد اجمعوا على عصمتهم عنه قبل البعثة وبعدها , ولم يقل بجوازه عليهم سوى الأزارقة من الخوارج, وقد جاء عنهم أنه يجوز على الله أن يبعث نبياً , يعلم بأنه سيكفر بعد بعثته! أما بقية الذنوب , فما كان منها من الكبائر ,فقد منع صدورها منهم الجمهور الأعظم من المسلمين , بما فيهم المعتزلة والأشاعرة , إلا أن المعتزلة منعوا صدورها منهم بحكم العقل لقاعدة اللطف والأصلح , وغيرهم منع صدورها منه للنص والإجماع, أما صدورها منهم نسياناً, فقد أجازوه عليهم كما أجازوا صدور الصغائر منهم عمدا وسهواً,والمنسوب إلى الجبائي انه أجاز الصغائر عليهم سهواً لا عمداً , هذا كله بعد النبوة , أما قبلها فقد جوز عليهم الأشاعرة وجماعة من المعتزلة الكبائر والصغائر عمدا وسهواً(1)
وقد استدل القائلون بأنهم معصومون عن الكبائر والصغائر عمداً بالأدلة الكثيرة التي استدل بها القائلون بعصمتهم المطلقة ,ومجملها أنه لو صدرت منهم الذنوب لحرم إتباعُهم فيما يفعلون , مع أن الإجماع والنصوص يدلان على وجوب متابعتهم في أقوالهم وأفعالهم. ولا بد من عصمتهم , وإلا لم تجز متابعتهم.
ولأنهم لو أذنبوا لكانوا من جملة الفاسقين الذين لا تقبل شهادتهم , ومن لا تقبل شهادته في أمور الدنيا , لم تقبل في أمور الدين. ولأنه لو صدرت منهم المعاصي لكان من اللازم إرشادهم , وإرجاعهم إلى الحق, من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ,ذلك قد يؤدي إلى إيذائهم واستعمال الشدة معهم حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا بالإضافة إلى أنه لو وقعت منهم المعاصي , لكانوا من مستحقي النار ,لقوله تعالى: ( وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) النساء / 14 .
وكانوا ممن تعنيهم الآية الكريمة: ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ) الصف / 2 ـ 3 .
وأيضا لو صدرت منهم المعاصي , لكانوا من الظالمين لأنفسهم, من حيث مخالفتهم للأوامر والنواهي , والظالم لا يصلح للنبوة , لقوله تعالى:
( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ) البقرة / 124. والظالم من أتباع الشيطان ولاسبيل للشيطان على المؤمنين لقوله تعالى: ( لْأُغْوِيَنّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْـمُخْلَصِينَ) الحجر / 39 ـ 40 .
إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة التي استدلوا بها على عصمة الأنبياء من الكبائر عمدا وسهوا في حال النبوة , وعن الصغيرة عمدا , كما وأن القائلين بجواز الكبائر عليهم سهواً في حال نبوتهم, وجواز الصغائر عليهم عمدا وسهوا في تلك الحالة , قد استدلوا ببعض الآيات القرآنية التي تدل بظاهرها على صدور الذنب من الأنبياء في حال نبوتهم . كما ورد بالنسبة لأدم , ويوسف , وموسى وغيرهم من الأنبياء الذين قص الله أحوالهم ببعض الآيات التي توهم صدور الذنب منهم (2).
أما الشيعة الأمامية: فقد وقفوا من هذه المسألة موقفا حاسما ,اعتبروه يتناسب مع شرف النبوة وقداستها , فنزهوا الأنبياء في جميع أحوالهم من جميع المعاصي والذنوب صغيرها وكبيرها وعن السهو والخطأ والنسيان قبل النبوة وبعدها واستدلوا على ذلك بالإضافة إلى الأدلة العامة , بأن جواز المعصية عليهم يتنافى مع الغاية التي أرسلوا من أجلها,لأن الله سبحانه أنما أرسل الرسل لعباده ليعملوا برسالاتهم ,ويسيروا على نهجها وهديها قال سبحانه : ( لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَذِلّ وَنَخْزَى) الكهف / 134. وإذا جاز على الأنبياء أن يخالفوا ما يأمرون به وينهون عنه لم يحصل الوثوق بأقوالهم, ما دامت لاتوافق أفعالهم.
ولو جاز عليهم السهو والخطأ في أقوالهم وأفعالهم ,لم يعد ما يمنع من وقوعهما منهم في التبليغ عن الله سبحانه. وإذا جاز عليهم الكذب في أقوالهم وأخبارهم ضعفت ثقتهم ومكانتهم من النفوس, فلا تحصل الغاية التي من أجلها أرسل الله أنبياءه ورسله. كما استدلوا بالإضافة إلى ما تقدم , بأن النبي لو فعل المعاصي , تجب إطاعته ومتابعته لقوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَالرّسُولَ ) آل عمران / 32 . ولقوله : ( َمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ )
الحشر / 7 , ومن حيث أنه يفعله أصبح عاصيا تحرم متابعته في ذلك الفعل ولازم ذلك اجتماع الوجوب والحرمة في حق المكلفين.
وأيضا يلزم أن يكون أسوأ حالاً من سائر أفراد البشر , لأنه أكثر معرفة لله منهم. وأكثرهم علما بأحكامه, والله سبحانه يعاقب الناس ويحاسبهم على حسب عقولهم , ومعرفتهم , ولذا فقد ضاعف الله سبحانه العقاب للعاصيات من نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) , قال سبحانه:
( يَا نِسَاءَ النّبِيّ مَن يَأْتِ مِنكُنّ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ) الأحزاب / 28 .
وهكذا رأى الشيعة أن القائم بهذه المهمة يجب أن يكون مثالاً للفضيلة بكل أنواعها ليسرع الناس إلى تصديقه والعمل بأوامره ونواهيه , وإلا فيكف يجوز على الله سبحانه أن يرسل إلى الناس من يأمرهم ولا يأتمر, وينهاهم ولا ينتهي ؟! مع أنه قد وبخ من كان بهذه الصفة, قال تعالى :
( لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ) (3) .
وقال الشيخ المفيد في أوائل المقالات: إن جميع الأنبياء معصومون عن الكبائر قبل النبوة وبعدها ومما يستخف فاعله من الصغائر كلها(4) وأما ما كان من صغير لا يستخف فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوة وعلى غير عمد , وممتنع منهم بعدها, وأضاف إلى ذلك , إن هذا هو مذهب جمهور الأمامية . . .
ـــــــــــــــــــــ
*مقتبس من كتاب ( الشيعة بين الأشاعره والمعتزلة) للعلامة المرحوم السيد هاشم معروف الحسني , بتصرف
1ـ أنظر المواقف للقاضي عبد الرحمن الآيجي /ج4ص265.
2ـ أنظر المواقف/ ج 4ص 264ا إلى ص 280 حيث أورد جميع الآراء في هذه المسألة وأدلتها .
3ـ انظر كشف الحق ونهج الصدق/ ص 81 و82 وشرح التجريد للعلامة /ص 217.
4ـ وقد مثلوا لذلك بسرقة الأشياء الحقيرة , كلقمة من الطعام, أو الآكل في السوق وغير ذلك مما بعد فاعله خسيسا وضيعا عند الناس, وعللوا استثناء هذا النوع من الصغائر, بأنه يوجب الاستخفاف به.