فلمّا اشتدّ به الفقر والمرض، وأيس من تزوج البنت، عزم على ما هو معروف عند أهل النجف من أنّه من أصابه أمر فواظب الرّواح إلى مسجد الكوفة أربعين ليلة أربعاء، فلابدّ أن يرى صاحب الأمر عليه السلام من حيث لا يعلم ويقضي له مراده.قال الشيخ باقر قده : قال الشيخ حسين: فواظبت على ذلك اربعين ليلة أربعاء، فلمّا كانت الليلة الأخيرة وكانت ليلة شتاء مظلمة، وقد هبّت ريح عاصفة فيها قليل من المطر، وأنا جالس في الدكّة التي هي داخل في باب المسجد، وكانت الدكّة الشرقية المقابلة للباب الأوّل تكون على الطرف الأيسر عند دخول المسجد، ولا أتمكّن الدّخول في المسجد من جهة سعال الدّم، ولا يمكن قذفه في المسجد، وليس معي شيء أتّقي به عن البرد، وقد ضاق صدري، واشتدّ عليّ همّي وغمّي وضاقت الدّنيا في عيني، واُفكّر أنّ الليالي قد انقضت، وهذه آخرها، وما رأيت أحداً ولا ظهر لي شيء، وقد تعبت هذا التعب العظيم، وتحمّلت المشاقّ والخوف في أربعين ليلة، أجيء فيها من النجف إلى مسجد الكوفة، ويكون لي الأياس من ذلك.
حدّث الشيخ العالم الفاضل الشيخ باقر الكاظمي نجل العالم العابد الشيخ هادي الكاظمي المعروف بآل طالب أنّه كان هناك رجل مؤمن في النجف الأشرف من البيت المعروف بـ (آل رحيم) يقال له الشيخ حسين رحيم.
وكان الشيخ حسين المذكور رجلاً طاهر الطينة والفطرة ومن مقدّسي المشتغلين.(1)
وكان معه مرض السّعال، إذا سعل يخرج من صدره مع الاخلاط دم، وكان ـ مع ذلك ـ في غاية الفقر والاحتياج، لا يملك قوت يومه، وكان يخرج في أغلب إلى أعراب البادية الذين في أطراف النجف الأشرف، ليحصل على قوت ولو شعير، وما كان يتيسّر ذلك على وجهٍ يكفيه، مع شدّة رجائه، وكان مع ذلك المرض والفقر قد تعلّق قلبه بالتزوج بامرأة من أهل النجف، وكان يطلبها من أهلها وما أجابوه إلى ذلك لقلّة ذات يده، وكان في همّ وغمّ شديد من جهة ابتلائه بذلك.
فلمّا اشتدّ به الفقر والمرض، وأيس من تزوج البنت، عزم على ما هو معروف عند أهل النجف من أنّه من أصابه أمر فواظب الرّواح إلى مسجد الكوفة أربعين ليلة أربعاء، فلابدّ أن يرى صاحب الأمر عليه السلام من حيث لا يعلم ويقضي له مراده.قال الشيخ باقر قده : قال الشيخ حسين: فواظبت على ذلك اربعين ليلة أربعاء، فلمّا كانت الليلة الأخيرة وكانت ليلة شتاء مظلمة، وقد هبّت ريح عاصفة فيها قليل من المطر، وأنا جالس في الدكّة التي هي داخل في باب المسجد، وكانت الدكّة الشرقية المقابلة للباب الأوّل تكون على الطرف الأيسر عند دخول المسجد، ولا أتمكّن الدّخول في المسجد من جهة سعال الدّم، ولا يمكن قذفه في المسجد، وليس معي شيء أتّقي به عن البرد، وقد ضاق صدري، واشتدّ عليّ همّي وغمّي وضاقت الدّنيا في عيني، واُفكّر أنّ الليالي قد انقضت، وهذه آخرها، وما رأيت أحداً ولا ظهر لي شيء، وقد تعبت هذا التعب العظيم، وتحمّلت المشاقّ والخوف في أربعين ليلة، أجيء فيها من النجف إلى مسجد الكوفة، ويكون لي الأياس من ذلك.
فبينما أنا اُفكّر في ذلك وليس في المسجد أحد أبدأ وقد أوقدت ناراً لأسخن عليها قهوة جئت بها من النجف، لا أتمكّن من تركها لتعوّدي عليها، وكانت قليلة جداً، إذا بشخص من جهة الباب الأول متجّهاً إليّ، فلمّا نظرته من بعيد تكدرّت وقلت في نفسي: هذا أعرابي من أطراف المسجد، قد جاء إليّ ليشرب من القهوة وأبقى بلا قهوة في هذا الليل المظلم، ويزيد عليّ همّي وغمّي.
فبينما أنا أفكر إذا به قد وصل اليّ وسلم عليّ باسمي وجلس في مقابلي، فتعجّبت من معرفته باسمي، فظننته من الذين أخرج إليهم في بعض الأوقات من أطراف النجف الأشرف، فصرت أسأله من أيّ عرب يكون؟ قال: من بعض العرب، فصرت أذكر له الطوائف التي في أطراف النجف، فيقول: لا، لا، وكلّما ذكرت له طائفة قال: لا لست منها.
فأغضبني وقلت له: أجل أنت من طُريطرة! مستهزءاً وهو لفظ بلا معنى، فتبسّم من قولي ذلك، وقال: لا عليك من أينما كنت، ما الذي جاء بك إلى هنا؟ فقلت: وأنت ما عليك السؤال عن هذه الأمور؟ فقال: ما ضرّك لو أخبرتني؟ فتعجّبت من حسن أخلاقه وعذوبة منطقه، فمال قلبي إليه، وصار كلّما تكلّم ازداد حبّي له، فعملت له السبيل من التتن، وأعطيته، فقال: أنت اشرب فأنا ما أشرب، وصببت له في الفنجان قهوة وأعطيته، فأخذه وشرب شيئاً قليلاً منه، ثمّ ناولني الباقي وقال: أنت اشربه، فأخذته وشربته، ولم ألتفت إلى عدم شربه تمام الفنجان، ولكن أخذ يزداد حبيّ له آناً فآناً.
فقلــت له: يا أخــي أنــت قد أرسلــك الله إلــيّ في هذه الليلــة تؤنسني، أفلا تروح معي إلى أن نجلس في حضرة مسلم عليه لسلام ، ونتحدّث؟ فقال: أروح معك فتحدّث حديثك.
فقلت له: أحكي لك الواقع: أنا في غاية الفقر والحاجة مذ شعرت على نفسي، ومع ذلك معي سعال أتنخّع الدّم وأقذفه من صدري منذ سنين، ولا أعرف علاجه، وما عندي زوجة، وقد علق قلبي بامرأة من أهل محلّتنا في النجف الأشرف، ومن جهة قلّة ما في اليد ما تيسّر لي أخذها.
وقد غرّني هؤلاء الملاّئية(2) وقالوا لي: إقصد في حوائجك صاحب الزمان عليه السلام وبت أربعين ليلة الأربعاء في مسجد الكوفة، فإنّك تراه، ويقضي لك حاجتك، وهذه آخر ليلة من الأربعين وما رأيت فيها شيئاً، وقد تحمّلت هذه المشاقّ في هذه الليالي، فهذا الذي جاء بي إلى هنا، وهذه حوائجي.
فقال لي وأنا غافل غير ملتفت: أمّا صدرك فقد برئ، وأمّا الإمرأة فتأخذها عن قريب، وأمّا فقرك فيبقى على حاله حتّى تموت، وأنا غير ملتفت إلى هذا البيان أبداً.
فقلت: ألا تروح إلى حضرة مسلم؟ قال: قم، فقمت وتوجّه امامي، فلمّا وردنا أرض المسجد فقال: ألا تصليّ صلاة تحية المسجد؟ فقلت: أفعل، فوقف هو قريباً من الشاخص الموضوع في المسجد، وأنا خلفه بفاصلة، فأحرمت الصلاة وصرت أقرأ الفاتحة.
فبينما أنا أقرأ وإذا به يقرأ الفاتحة قراءة ما سمعت أحداً يقرأ مثلها أبداً، فمن حسن قراءته قلت في نفسي: لعلّه هو صاحب الزمان، وذكرت بعض كلمات له تدلّ على ذلك ثمّ نظرت إليه بعد ما خطر في قلبي ذلك، وهو في الصلاة، وإذا به قد أحاطه نور عظيم منعني من تشخيص شخصه الشريف، وهو مع ذلك يصلّي وأنا أسمع قراءته، وقد ارتعدت فرائصي، ولا أستطيع قطع الصلاة خوفاً، منه فأكملتها على أيّ وجه كان، وقد علا النور من وجه الأرض، فصرت أندبه وأبكي وأتضجّر وأعتذر من سوء أدبي معه في باب المسجد، وقلت له: أنت صادق الوعد، وقد وعدتني الرواح معي إلى مسلم.
فبينــما أنا أُكلّم النــور، وإذا بالنــور قد توجّــه إلــى جـهة مسلم، فتبعته فدخل النور الحضرة، وصار في جوّ القبّة، ولم يزل على ذلك، ولم أزل أندبه وأبكي حتى إذا طلع الفجر عرج النور.
فلمّا كان الصباح التفتّ إلى قوله: أمّا صدرك فقد برئ، وإذا أنا صحيح الصدر، وليس معي سعال أبداً، وما مضى أسبوع إلاّ وسهّل الله عليّ أخذ البنت من حيث لا أحتسب، وبقي فقري على ما كان لما أخبر صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين.