المرجعية.. لا تتراجع

كعادة المتصيّدين في التفسير المغرِض للمواقف المفصلية، والتأريخية، راح المشكّكون واللاهثون وراء الخيالات السياسية التي لا تستند إلى معطيات الواقع، بالحديث عن “انسحاب” المرجعية الدينية في النجف، من التدخل في تفاصيل الأحداث السياسية.

و واقع الحال، انهم يدركون تماما، انّ المرجعية لم تنسحب بالمعنى الذي يسوّقون له، وهو الانعزال والانكفاء، بل على العكس من ذلك، فانّ المرجعية الدينية بقرارها عدم الخوض “الأسبوعي”، وأؤكد “الأسبوعي”، في الشأن السياسي، يبعث على الشعور بالطمأنينة، في وجود قيادة روحية تسعى الى تجنّب النمطية في طرح الأحداث، ومعالجتها برويّة بعيدا عن الاعلام.

والخلاصة، انّ عدم الخوض “الأسبوعي” في الأحداث في خطب الجمعة لا يعني، الانسحاب من الميدان.

ومنذ 2003، أدركت المرجعية انّ ثمة حاجة الى إبداء الرأي الأسبوعي، في الأحداث السياسية والقرارات الحكومية، وكان هذا مهما في خلال السنوات الماضية التي أعقبت سقوط صدام حسين، مؤسِّسّة لثقافة “المواقف الواضحة والثابتة”، وبات كل عراقي يعي ما تنشده المرجعية، ما عجّل من قرارها في عدم الخوض الأسبوعي في الحدث السياسي.

ودوافع هذا الاستنتاج ان المرجعية كانت على الدوام، العمود الثابت الذي تستند عليه العملية السياسية، لاسيما في المنعطفات المفصلية، التي تحتّم القرار التاريخي، وكان أخطرها كتابة الدستور، وفتوى الجهاد الكفائي، الذي قلب ظهر المجن على الإرهاب، وداعميه.

انّ المرجعية التي حسمت الإشكالات التأريخية، لا تنحسب أمام التحديات الكبرى، وهو أمر متوقّع، مثلما لا تسعى الى الاجترار السياسي في تفاصيل بدت انسيابية ضمن السياق العام لحركة الأحزاب والكتل، لتترك الباب مفتوحا لهؤلاء في حسم الجدالات والخلافات، لكنها بالمرصاد لأي اتجاه او تحرك، ينحرف عن النسق العام الذي حدّدته المرجعية، منذ 2003، وهو سياق العراق الواحد، والدفاع عنه بوجه الإرهاب، والالتزام بالدستور، وإمهال الحكومة، الوقت لمحاربة الفساد والفاسدين.

ووفق هذا، لم تقصد المرجعية الرشيدة التنصّل من المسؤولية، لكنها تبعث رسائل هامة يجدر بالشعب العراقي، التمعّن في سطورها.

ومن هذه الرسائل ان المرجعية الدينية ترى ان الحكومة التي تشترك فيها كتل وأحزاب من مختلف المشارب والاتجاهات والقوميات والطوائف، لازال “الفشل” يسود برامجها وخططها، وان إدارتها لشؤون البلاد، لم يكن في مستوى دعم المرجعية لها وثقتها بها.

والفشل هذه يتحمله، عربٌ وأكراد، سنّة وشيعة وطوائف أخرى، يمين ويسار ومستقلون، برلمانيون، ومسؤولون كبار.

رسالة المرجعية تحمل في طياتها، التنبيه الى تداعيات أزمة البلاد الاقتصادية والفشل في إدارتها ووضع الحلول لها، لتدق جرس الإنذار، عسى يصحو النائمون من خطر كبير يتهدّد البلاد، ويشرعون في شحذ الهمم وتحمل مسؤولياتهم أمام الله والتاريخ.

لقد ركب محللون وسياسيون ومتابعون حصان “الفهلوة” السياسية، والتحاليل المرتبطة بولاءتهم، ليفتروا على المرجعية بانها لا تريد ان تتحمّل نتائج الفشل السياسي في العراق، فكأنها طرف فيه، أو أنها حائرة بين التدخل والانسحاب، وان خياراتها صعبة، وكل ذلك، “إنشاء”، واهٍ، لا يستطيع الصمود امام دور المرجعية الرائد في الأحداث منذ 2003، حين كبحت جماع الفتنة الطائفية، وأوقفت تمدد الإرهاب، ولا زالت تحث الحكومة على محاربة الفساد.

انّ مثل هكذا إرادة لا يمكن لها ان تنسحب من الميدان، بعدما سعى البعض الى تصوير عدم الخوض “الدوري” في الأحداث بانه “تراجع”.

ستثبت الأحداث اللاحقة، ان المرجعية حاضرة في القرارات المصيرية، والمواقف الحاسمة، وهو ما لا يسرّ أعداء العراق، والمحللون والسياسيون التابعون، لأهواء الممولين، الذين يحلمون بإقصاء دور المرجعية عن الأحداث، وهو حلم دونه، خرط القتاد.

شاهد أيضاً

عِللُ الغيبة و فلسفتها

«اللّهمّ عرّفني حُجّتك، فإنّك إنّ لم تُعرّفني حُجّتك ضَلَلْتُ عن ديني»لا نعرف شيئاً بعد معرفة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.