اسماعیل شفیعی سروستانی
«نحن نصنع المدن والمدن تصنعنا»، هذه عبارة نسبت الى تشرتشيل، ولا يفرق ان كان هذا الكلام لتشرتشيل أم لغيره. فنقطة دقيقة تكمن فيه وهي ان المدن تقوم على اكتاف صانعيها الذين يرسون اساس نظامها الثقافي وهيكلتها المعمارية بما يتطابق مع الاخلاق والادب والثقافة التي اكتسبوها. النظام الفكري الخاص التي يتضح فيه موقع الانسان والله والعالم. وهذا يتوقف على الانطباع الذي يحمله هؤلاء الصناع عن الانسان وما المقام والشان الذي يولونه له في الارض. هل هو مقام الهي في الارض أم عبودية تامة لرب الارباب؟
وكل المدن تشيد على اساس هذه الانطباعات الخاصة وتنشئ وتربي بين احضانها انسانا يحمل الانطباع ذاته الذي يحلمه الصانعين حول العالم والانسان. لان الانسان الذي يتربى في احضان المدينة يرضخ قسرا لاداب خاصة ويفهم اوجها من الحقيقة بمنا يتناسب مع التصميم الخاص لتلك المدينة ومقدوراتها ويجد مكانته فيها. ان المدن تفرض بصورة مباشرة او غير مباشرة ادبا ما على الانسان. الادب الذي يبني جميع افعاله حتى وان كان يعارضه في الجوهر والاساس.
وثمة الكثير من السذج الذين يسعون لرسم حدود بين اقوال الانسان وافعاله او ان يعتبروا انطلاقا من الانطباعات الغربية من الدرجة الثانية والعلوم الاكاديمية السائدة، الثقافة والادب بانهما يشكلان مادة الحياة المدنية والحضرية. انهم يجعلون مخلفات الادب والثقافة التقليدية وسيلة لزخرفة المدنية الحديثة او انهم يستثمرونها في سبيل ملء اوقات فراغ الاناس الذين سئموا المدن المشيدة على الطريقة الغربية الحديثة. فالمقاهي الفوكلورية والملابس التقليدية والمبناني العتيقة والمتاحف والمراكز الفنية، تؤشر كلها على ذلك. اي انها تعلن بطريقة او باخرى بان الاوجه المختلفة للثقافة التقليدية والدينية، فقدت ادائها ويجب تكريمها والاعتزاز بها فحسب. وليس هناك مكان لمخلفات الثقافة الماضية وليس هناك وجه لتطبيق الادب الخاص بها. لان الانسان المقيم في المدينة الحديثة، في غنى عنها. لانه ابدع ادبا جديدا يتلاءم مع المدن الحديثة. نعم، فسكان المدن الحديثة بالبلدان الاسلامية، هم اناس بعدة اوجه. ففي الفجر يسجدون لله ويعبدونه ، من ثم ينصرفون لتطبيق اوامر و تعليمات مصممي المدن الحديثة.
إن المدن وصناعها، يفرضون دوما مطالبهم على سكانها المساكين و يحولونهم الى كائنات تتسم بالازدواجية. الكائن الذي لا يميل اي من اعماله وعلاقاته نحو الصلاة. لا معماريته ولا تصميم مدنه ولا لباسه ولا معاملاته لا تمت بصلة الى الصلاة. فقد تحولت الصلاة الى امر فردي و وجداني وخاص. لان المدن الحديثة، تجلب معها ثقافتها الخاصة بها.
ففي الماضي ادى التناقض بين الثقافة والمدنية التقليدية والدينية و اداب وعادات المستغربين والغربيين الى حدوث اختلاط وانتقائية ثقافية و مدنية، ما اسهم في بسط ونشر الحضارة الغربية وثقافتها الخاصة. ان هذا الاختلاط قد استمر الى هذا اليوم ـ لدرجة ان الغرب اصبح يقرر كل معاد ومعاش سكان هذه البلدان ـ وحولهم الى كائنات يمنون النفس بتادية العبادات الفردية فيما يغوصون في الثقافة والحضارة الغربية. فهؤلاء لم يعودوا شرقيين او اسلاميين، فضلا عن انهم ليسوا غربيين ايضا. ويمر الان اكثر من مائة عام على عمر التناقض والازمة الثقافية والمدنية التي تعصف بالبلدان الاسلامية. وخلال هذه السنوات حالف الحظ، الثقافة والحضارة الغربية وتضاءل حضور الثقافة الاسلامية في هذا الميدان، لدرجة ان بقايا الثقافة والحضارة الاسلامية على هيئة المعمارية واللباس والموسيقى و… نقلت الى المتاحف والمراكز الفنية والمقاهي.
ولم تعد ثمة فوارق ذاتية في اللغة والبيان الذي يستخدمه خريجو جامعات البلدان الاسلامية والبلدان الاوروبية. مثلما انه ليس هناك فارق وتباين بينهما من حيث اللباس والعمارة واداب العشرة. ان اقدام شعوب البلدان الاسلامية، لم تعد ترتجف للانخراط في الثقافة والحضارة الغربية. انهم اصبحوا ياخذون برغبة وتشوق وصفات علاج مشاكلهم المدنية من الغربيين ويختبرون انفسهم كل مرة في مختبرات الغربيين. انهم يعتزون فحسب بماضيهم التاريخي ويصنعون متاحف للحفاظ على اثارهم وتراثهم ويدعون السياح لزيارتها. لانهم يعتبرون انفسهم منتمين للدورة التاريخية الحديثة واصحاب حصة في تاريخ الغرب.
إنهم يكرمون فكر ورؤية اجدادهم واسلافهم عن الكون، لكنهم لا يكنون اي ايمان قلبي تجاهه، وفوق ذلك يعتبرون انهم مثقفون ليتخذوا الفهم التجريبي للعلم الغربي، معيارا للتشخيص. فالمناهج الدراسية لاطفالهم مليئة باراء علماء الاحياء وعلماء الاجتماع وعلماء النفس وعلماء الاقتصاد الغربيين. فهم يلقنون ويعلمون اطفالهم بنظرية «التطور» لداروين بجانب اراء وافكار كينغز و ادام اسميث واسبينوزا وفولتير وكونت وجان لاك في سياق الكتب التعليمية والدراسية، و يطعمونها احيانا برواية او حديث او اية قرآنية، او انهم يعتبرون بيتا او غزلا من سعدي او حافظ، برهانا على صحة تشخيص ورؤية هؤلاء العلماء.
واليوم وبجانب الشرقيين المتغربين والمسلمين المتفرنجين، ثمة حشد هائل من المسلمين المنبهرين بالغرب، لم تترك الانتقائية والاختلاط الثقافي والنظري، لديهم اي انتماء الى الفكر والثقافة الدينية وحتى التقليدية والوطنية. وبات الحديث لا يدور حول الحضارة، لان الجميع ليس يتشدقون بالحضارة الحديثة فحسب بل يعتبرون الابتعاد عنها، حرمانا من الماء والهواء.
و هل هناك حقا سبيل لايجاد مخرج من هذ الوضع؟
إن المؤلف يؤمن بمقولة انه من غير الممكن علاج المرض قبل تشخيصه وان اي علاج لن ياتي بالنتيجة المرجوة من دون ان يبدي المريض تعاونا.
إن ما ذكرناه، يعكس صورة عن الوضع العام الذي تمر به البلدان الاسلامية من شمال افريقيا الى مصر ومن مصر الى العراق ومن العراق الى شبه القارة الهندية. واهم عامل اسهم في ايجاد هذا الوضع، يجب البحث عنه في نظام التعليم والتربية في هذه البلدان.
إن انتصار الثورة الاسلامية، من بين كل هذه الضوضاء والجلبة والوضع المزري، شكل بريق امل حجب الظلام عن البلدان الاسلامية. ان زوال الجهاز السياسي التابع للغرب في ايران، كان مقدمة لانطلاق تيار كان امامه مشوار من ثلاثمائة او اربعمائة عام لتحقيق الثورة الثقافية وازالة صدأ الشرك والالحاد، وبلا شك فان نيل المراحل الاولية المدنية القائمة على الثقافة والفكر الديني، كان يتطلب همة عالية وحلم متين، يحمي و يصون الاقدام من الانزلاق والارتجاف في وسط الطريق.
إن مساهمة عامة الشعب في السنوات الحرجة للثورة والدفاع المقدس، ازال العديد من العقبات. لكن الوصول الى الاهداف العامة على الامد الطويل، بحاجة الى وضع الكثير من الاستراتيجيات و التخطيط و توجيهها تاسيسا على النظام النظري الديني وممارسة كبار مفكري وشخصيات هذا النظام النظري، المراقبة والاشراف. و بخلاف ذلك، فان تواجد من نشأوا على يد التيار الفكري والثقافي الغربي في ساحات التخطيط والتصميم العام لنظام التعليم والتربية للبلاد، يمكن ان يمهد مرة اخرى للعودة الى الوضع السابق.
إن الظروف التي تسود سائر البلدان الاسلامية، وتوقعاتهم من الثورة الاسلامية في ايران، يزيد من حجم المسؤولية، لان هؤلاء يعتبرون ايران، نموذجا يحتذى للتحرر من براثن العسف الثقافي والمدني للغرب