لا تمحى ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام من ذاكرة أمة الإسلام.. تمر السنون وتتعاقب الأيام ولا يندمل هذا الجرح الدامي في قلب الأمة، وكلما أهلَّ هلال شهر المحرم يتذكر المسلمون في شتى بقاع الأرض هذه الذكرى الأليمة، ويتذكرون معها الدروس والعبر المستفادة من بطولة الإمام أبي عبدالله عليه سلام الله وكيف اختار سبط النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الحياة الآخرة وترك زينة الحياة الدنيا، وكيف دل الأمة الإسلامية على طريق العزة والشرف والكرامة والبطولة.
وتقف الأيام شاهدة على اختيار سيد شباب أهل الجنة طريق الشهادة في سبيل نصرة الحق والوقوف في وجه الظالمين.. وكيف تتعلم البشرية من الإمام الحسين عليه السلام أعلى درجات الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله.. عندما أراد الإمام من خلال رفضه عيشة الذل والخضوع والانكسار.. وأثبت للعالم من خلال ثورته كذب وزيف الطغاة الذين أظهروا الإسلام وهم في حقيقة الأمر لا يمثلون الحالة الإسلامية الصحيحة، لأنهم دنسوا كل القيم الإنسانية التي جاء بها الإسلام وأهدروا كرامة الإنسان وسلبوا حريته التي وهبها الله تعالى إليه.
ويقول الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر الشريف الأسبق: الحكام الظلمة الذين يهدرون حرية الإنسان يخالفون أوامر الله عز وجل الذي كرم بني البشر (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً )، مؤكداً أن الصرخة الأولى التي أطلقها الإمام الحسين ضد الظلم والظالمين ليصحح بها مسار الأمة وصرخته الأخرى كانت: ألا ترون إلى الحق لا يعمل به والى الباطل لا يتناهى عنه هذه العوامل وأمثالها دفعت بالإمام الحسين (ع) إلى نتيجة المواجهة مع هؤلاء لان السكوت على باطلهم يؤدي إلى ضياع القيم الإلهية وإشاعة مفاهيم الجاهلية في الأمة.
وشدد على أن الإمام الحسين هو اكبر ثورة للتغيير وإزالة المفسدين وهو هدف وغاية كبرى على مر العصور.
إرادة التضحية
وأضاف الشيخ عاشور أن صرخة الإمام الحسين (ع) علمتنا إن إرادة التضحية هي المنتصر وان الدم سينتصر على السيف مهما طال الزمن وان مصير الخونة القتلة والفجرة إلى خسران مبين، وان قيم الله العادلة في حفظ كرامة الإنسان هي التي ستنتصر في بناء دولة الإنسان، دولة الحق والعدل.
وأوضح أن هذا اليقين المطلق عند الإمام الحسين(ع) بالانتصار المعنوي في مقارعة الظالمين وتحريك الأمة بالاتجاه الصحيح مهما حاول الطغاة سحق إرادتها هو الذي دفعه إلى التضحية، رغم علمه انه يخسر المعركة ماديا ولكنها سيربحها معنويا لتكون دماؤه الطاهرة وأهل بيته وأصحابه منارات تنير الدرب لكل الأحرار في الأرض. وأضاف: وهذا ما حدث بالفعل، إن الأمة التي حاول الطغاة سحق إرادتها لا يمكن أن تستفيق من غفلتها والخروج من استرخائها إلا بالتضحية، لان التضحية تمثل الوقود الدائم في مواجهة الطغاة وإعادة القيم الإلهية إلى واقع الحياة.. فلابد لنا من إحياء قيم الإمام الحسين في نفوسنا وأهلينا ومجتمعنا لمواجهة التحديات الكبيرة التي يمثل عناوينها كل أنواع الظلم.
دروس وعبر
من جهته قال الشيخ منصور الرفاعي عبيد وكيل الأزهر الأسبق: «كلما أهل شهر المحرم تذكرت الأمة الإسلامية الجرح الدامي لما شهده هذا الشهر من استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، وكلما أهل شهر المحرم تذكرت أمة الإسلام العبر والدروس من بطولة الإمام، وما حدث في يوم عاشوراء بما فيه من دروس تربي وتزكي الأمم والأفراد». ولفت إلى أن أهم هذه الدروس هلاك الطواغيت لأن هلاك الظالمين نعمة كبرى، ومنّة عظمى، قال تعالى: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 45)، فقُرن حمده تعالى بسبب ظاهر- وهو المستحق للحمد في كل حين- يتمثل في إهلاكه سبحانه للظالمين وقطعه لدابرهم وفي ذلك من الإنعام على المستضعفين والرحمة بالمؤمنين مالا يخفى، ومن هنا استحق يوم عاشوراء أن يكون واحداً من أعظم أيام التاريخ، فقد هلك فيه الرمز الأكبر للظلم والطغيان في الأرض على مر العصور، وهو فرعون حاكم مصر في عهد موسى عليه السلام على غير توقع، وبغير تكافؤٍ في موازين القوى آنذاك بين أهل الحق وأهل الباطل، لكن الله جلَّت قدرته فعال لما يريد، ومن بعده بعث الله على من قتل الحسين الذل والصغار واللعنة إلى يوم القيامة، فكان هذا اليوم سبباً في فضح هؤلاء القتلة ومعرفة البشرية جميعاً بخستهم ونذالتهم وهذا هو الهلاك الحقيقي وليس موت الأجساد.
أيام الله
وأضاف عبيد: سُمّى يوم العاشر من المحرم باسم عاشوراء تعظيماً له، وهو اسم إسلامي خالص لم تعرفه العرب في الجاهلية، ورغم أن العاشر من المحرم كانت له حرمة قديمة عندهم ربما ورثوها من ديانة، إبراهيم وقد أمر الله عز وجل نبيه موسى بأن يذكر بني إسرائيل بنعم الله عليهم، وأعظمها إهلاك فرعون، فقال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى? بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ. إِنَّ فِي ذَ?لِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) قال القرطبي في تفسيره: «أي بما أنعم الله عليهم من النجاة من فرعون ومن التيه إلى سائر النعم. وقد استشهد الحسن البصري بالجزء الأخير من هذه الآية في موقف مماثل، وهو هلاك الطاغية الظلوم الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان الحسن قد توارى منه سبع سنين، فلما بلغه موته، قال: اللهم قد أمته، فأمت سنته، وسجد لله شكراً، وقرأ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَ?لِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (لقمان-31)، ولعل السبب في تعظيم ذلك اليوم والأمر بصيامه، وتكفير السيئات به، يعود إلى ماله من تأثير على حياة البشر، حينما تظل ذاكرة الأمة المسلمة يقظة ومتوقدة للمواقف الفاصلة بين الحق والباطل، ويدل على ذلك ما نلمسه من توجيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهمية استشعار البعد التاريخي في الأحداث المعاصرة، والشعور بوحدة المعركة، فهلاك فرعون موسى بشرى بهلاك فرعون كل مرحلة من مراحل الصراع، ولذلك جاء في الحديث الذي رواه مسلم أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سأل اليهود: ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟ فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال: فنحن أحق وأولى بموسى منكم».
هلاك الظالمين
ومن جانبه قال الدكتور محمود صبيح الباحث في تاريخ أهل البيت عليه السلام إن من أهم الدروس والعبر عاشوراء أنه يوم العبرة بهلاك الظالمين حيث لم يتعظ فرعون كشأن كل الطغاة والظالمين حين رأى آيةً عظيمة من آيات الله أمام عينيه، فها هو البحر ينشق لموسى عليه السلام، وهاهو طريق ممهد يظهر فجأة فوق الماء، فتغافل فرعون عن ذلك كله وسار باطمئنان الجاهل، واستخفاف الغافل يريد اللحاق بهؤلاء الفارين ولكنه وجد نفسه فجأة في وسط الماء، وأدرك مصيره الأسود المحتوم فحاول أن يصنع شيئاً، ولكن الله بعدله العظيم، لم يمكنه من النطق بكلمة التوحيد إلا في الوقت الضائع، حيث لا ينفع أحدًا إيمانُهُ؛ فكان سوء الخاتمة جزاءً وفاقًا لما ارتكبه من جرائم وحشية في حق الشعب، ومن تطاول على رب العزة حين ادعى وهو الحقير الذليل أنه الإله المعبود.
وأضاف: هكذا تعلمنا تلك النهاية أن جرائم الطغاة لا تذهب سدى في لحظة عابرة، وما أجمل ما حكاه القرآن العظيم عن غرق فرعون حين قال: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، آلْانَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِين، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ).
وأوضح أن الله عز وجل لم يكتف بعقوبة الآخرة ويا لها من عقوبة!- ولكن سبحانه عاقبه في الدنيا أيضاً بالطرق، وجعله عبرةً فلم يسمح لجثته بالاندثار، بل جعل بدنه يطفو على سطح الماء ويستقر على نجوة من الأرض كما قال المفسرون فأخذه المصريون واحتفظوا بجسده كعادتهم بما مكنهم الله من إسرار التحنيط وسلطان العلم، فصار لمن خلفه آية، ليس لجيل أو جيلين، بل لعشرات الأجيال ومئات السنين؛ فسبحان الذي يمهل ولا يهمل.
بداية ذل العرب
وأضاف الدكتور صبيح: «كان مقتل الحسين بداية الذل للعرب والمسلمين فعن عمرو بن بعجة قال: أول ذل دخل على العرب قتل الحسين بن علي وادعاء زياد»، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن الأمة ستبتلى في أهل بيته من بعده فعن عمارة بن يحيى بن خالد بن عرفطة قال: كنا عند خالد بن عرفطة يوم قتل الحسـين بن علي عليهما السلام فقال لنا خالد: هذا ما سمعت من رسـول الله: «إنكم ستبتلون في أهل بيتي من بعدي»، وبالفعل ابتليت الأمة، وذلت العرب، بل ذل المسلمون، فتوقفت الفتوحات، وبدأت الهجمات التي تريد استئصال شأفة المسلمين.
المصدر : الوكالة الشيعية للأنباء