لم تحمل ماريا يعقوب السيدة الأربعينية التي غادرت الموصل منذ أيام معها سوى بضع صور جماعية تجمعها مع أشقائها ووالديها في سن الصبا وزوجها وأطفالها في عمر الشباب وهي كل ما تبّقى لها من حياتها في المدينة التي ولدت وعاشت فيها سني عمرها مثلما عاش فيها أسلافها وعائلتها منذ أجيال.
الرحيل من الموصل كان فاجعة لا توصف لأمرأة مثلها فقدت زوجها مبكراً في حادث سير مأسوي تحملّت بعده مسؤولية أطفالها الثلاثة لكن الفاجعة الأكبر كانت سلب جارها الداعشي المتشدد لممتلكاتها ومنعها من أخذ أي شيء معها.
«لم أتوقع أن جيران العمر الذين لم يفصلني عنهم طوال سنوات سوى جدار صغير هم من سيطعنونني في الصميم وإن ابنهم الذي انضم إلى «داعش» هو من سيطرق بابي ويطلب مني المغادرة ويصفني بالكافرة» تقول ماريا بألم.
قصة الرحيل بدأت حينما سمعت ماريا طرقات متلاحقة على باب المنزل فلم تسمح لأبنائها بفتح الباب وفضلّت أن تذهب هي بنفسها، وضعت منديلاً أسود لتغطي رأسها مثلما اعتادت منذ دخول تنظيم «داعش» إلى الموصل قبل قرابة شهرين ثم فتحت الباب لتجد أبن الجيران مهند وهو يحمل سلاحه بيده ويرتدي زياً أفغانياً مثلما يفعل معظم العاملين مع «داعش».
«أما زلت هنا أيتها الكافرة، ألم تسمعي أمر الدولة الإسلامية بطردكم؟ إذا لم تغادري الآن فوراً سنهدر دمك ودم أولادك» هذه العبارة التي رددها جارها «الداعشي» الجديد، صعقت المرأة فعادت إلى الداخل مسرعة من دون أن تنبس بكلمة وحاولت جمع ملابسها وبعض النقود التي بحوزتها والبومات الصور التي تجمعها بالعائلة.
«أسرعوا في جمع ملابسكم وأشيائكم الخاصة سنغادر المكان إلى بيت خالتكم لبنى في أربيل لأنهم سيقتلوننا إذا بقينا» رددت هذه العبارة بارتباك قبل أن يزيح ابنها الأكبر ستارة شباك الغرفة ويرى جارهم متأهباً بسلاحه عند الباب.
كانت المرأة منشغلة طوال اليوم في ترتيب المنزل ولم تسمع شيئاً عن طرد المسيحيين، لكن هاتفها النقال رن أثناء جمعها الأغراض وكان المتصل إحدى صديقاتها في الموصل «ماريا اجمعي أغراضك وغادري بسرعة سيقتلوننا إذا بقينا هنا يمكنك أن تأتي معنا إلى قريتنا في دهوك». ردت ماريا بألم «شكراً سأغادر إلى أربيل».
مضت أقل من عشر دقائق خرجت بعدها المرأة وأولادها بملابسهم واشيائهم الشخصية عند الباب لكن الجار الذي بدت على وجهه تعابير القسوة والاستهزاء معاً طلب منها ترك الاغراض عند الباب والمغادرة بالملابس التي كانوا يرتدونها.
لم تنفع دموعها ولا توسلاتها في ثني الشاب العشريني المدجج بالسلاح عن عزمه فتركت كل شيء ولم تحمل سوى حقيبتها الشخصية التي تحتوي على بعض الصور بعدما استولى جارها على النقود التي كانت فيها.
«سأجعلك تأخذين الصور فقط لتدخلي بها جهنم» هكذا خاطبها قبل أن تغادر مع أولادها الثلاثة وهي تلقي نظرة أخيرة على منزلها الذي خط عليه جارها حرف النون وكتب عليه بأنه من «أملاك الدولة الإسلامية».
الأخبار كانت تتسارع في شوارع الموصل والكثيرون قالوا إن عناصر «داعش» لم يسمحوا لأحد بإخراج أي شيء معه الأمر الذي دفعها لإخفاء الصور في ملابسها.
قبل وصول السيارة التي استأجرتها إلى البوابة الرئيسة للمدينة شاهدت المرأة عشرات النازحين مثلها وهم يتركون سياراتهم وأغراضهم ويسيرون على أقدامهم تاركين وراءهم عمقاً تاريخياً يمتد لمئات السنين.
«إنهم نصارى يريدون مغادرة المدينة ولا يحملون أي شيء معهم» قالها السائق لاثنين من عناصر «داعش» في نقطة الخروج قبل أن يطلب منه أحدهم أن يتوقف جانباً ويخرج الركاب.
«خذي أولادك وغادري واتركي الحقيبة هنا، وارجع أنت من حيث اتيت». أمتثل السائق للأمر وغادرت المرأة من دون أن تنبس بكلمة واحدة مثلما فعل الكثيرون غيرها بعدما جرت على خدها دمعة حسرة.
تقول ماريا «حينما وصلت إلى نقطة الخروج أدركت أنني أفضل من غيري، فالكثيرون من المسيحيين حاولوا الخروج بسياراتهم لكن المسلحين سلبوهم كل شيء حيث أخذوا نقودهم ومصوغاتهم الذهبية وملابسهم وتركوهم يغادرون سيراً على الأقدام مع أطفالهم».
سارت المرأة لمسافة لم تعرف مدتها فهي لا تحمل ساعة أو هاتفاً وكل ما تتذكره تلك السيارة التي أقلتها باتجاه اربيل وخلصتها من أشعة الشمس الحارقة.
تقول ماريا: «كنت أنظر من حولي وأشاهد العشرات وهم يسيرون في الاتجاه ذاته مع أطفالهم والكثيرون منهم كانوا يحملون الصغار في أحضانهم ويرتاحون بعد كل مسافة حتى تم نقلنا بسيارات القوات الكردية وبعض المدنيين ساعدونا أيضاً بسياراتهم بعد وصولنا بالقرب من مدخل أربيل».
وصلت ماريا إلى أربيل واستقلت سيارة أجرة إلى عين كاوه وعندما وصلت بيت شقيقتها نزلت وطلبت من ابنها النزول وإحضار الأجرة للسائق من خالته لكن الأخير رفض وقال لها إنه نقل في اليوم ذاته ثلاث عائلات مسيحية من دون مقابل فالجميع لا يملكون النقود».
شوارع عين كاوه التي يقطنها المسيحيون في أربيل كانت مليئة بالقصص المؤلمة مثلما امتلأت بيوتها بالنازحين من الموصل، وبيت شقيقة ماريا ذاته نزحت إليه عائلة شقيقها من جنوب الموصل.
دموع الفرح بسلامة الوصول والحزن على ما آلت إليه اوضاع المسيحيين في الموصل امتزجت في شكل تام في ذلك اليوم في بيت شقيقة ماريا وباقي بيوت عين كاوه، وفي الأيام التي تلت النزوح توجه الكثير من النازحين للتسول لا سيما أولئك الذين ليس لديهم اقارب يساعدونهم في تحمل أعباء الحياة.