رحمة للعالمین

قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾1، حينما يموت الإنسان يحزن أحباؤه ويحيون ذكراه، ولكن ما أن تمضي السنون حتى ينساه الناس، ويصبح في خبر كان، لكن حينما يكون للإنسان قضية ورسالة، فإنّه يحيى وتحيى ذكراه بحجم تلك القضية وامتداد تلك الرسالة، فإذا كانت الرسالة خالدة، فإنّ ذكرى ذلك الإنسان تخلد.

مِن هنا خلدت ذكرى رحيل سيّد بني البشر محمد (صلى الله عليه وآله)؛ لأنّه –إضافةً إلى كونه الإنسان الكامل- صاحب الرسالة الخالدة فخلد بخلودها.

ففي الثامن والعشرين من شهر صفر تتجدّد الذكرى ليبحث الذاكر في كتاب الخلود عن شأن من أُنزل إليه، فيرى كلام الله في شخصه مدحاً لم يبلغه مدح ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾2، ويرى في غاية الرسالة غاية تجاوزت مدى بصر وبصيرة الإنسان ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾3.

وتتجلّى هذه الرحمة في أنحاء كثيرة من حياة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله)، نعرض منها:

أ. الرحمة في وجوده
نقرأ في تاريخ الأنبياء:
– أنَّ قوم نوح (عليه السلام) كفروا بنيّهم، فأغرقهم الله تعالى بالطوفان.
– أنَّ قوم هود (عليه السلام) عصوا نبيّهم، فأزالهم الله تعالى بريح صرصر باردة.
– أنَّ قوم صالح (عليه السلام) تمرّدوا على نبيّهم، فأبادهم الله تعالى بصيحة الغضب الجبرائيلية.
– أنَّ قوم لوط (عليه السلام) شذّوا عن تعاليم نبيّهم، فهدم الله تعالى عليهم تلك المدينة.
أمّا قوم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد اختلف الأمر فيهم، فمع وجود ما يشبه تلك المعاندات والآثام والمعاصي لم يحصل طوفان إغراق، ولا ريح إزالة، ولا صيحة إبادة، ولا قلب مدن. ما السرّ في ذلك؟

روي عن ابن عباس أن سبب ذلك يرجع إلى قول الله تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾4، إذ قال: “كان محمد (صلى الله عليه وآله) رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدّق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق”5.

ب. الرحمة للكافرين به
ونقرأها في محطات عديدة أيضاً من حياته الشريفة، منها:
1. في مكّة: رماه كفّارها بالحجار فأدموه، قالت خديجة: فداك أبي وأمي دع الدم يقع على الأرض، فقال (صلى الله عليه وآله): “أخشى أن يغضب ربّ الأرض على من عليها”6.
2. في الطائف: لحقه الناس فأدموه، فإذا به (صلى الله عليه وآله) يقول: “اللهم اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون”.
3. استخفت به أهل ثقيف فآذوه، فحضره ملك الجبال، ليأمره بإهلاكهم، فقال (صلى الله عليه وآله): “بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله “7.
4. حين فتح مكّة قال سعد بن عبادة: “اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسبى الحرمة”، فقال (صلى الله عليه وآله): “اليوم يوم الرحمة”8.

ج. الرحمة لأهل الكتاب
ونقرأها في محطات عديدة أيضاً من سيرته، منها:
تقاضاه يهوديّ، وكان قد أقرضه مالاً، ولم يكن عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) مال، فقال اليهوديّ: “لا أفارقك يا محمّد حتى تقضيني، فقال (صلى الله عليه وآله): إذاً أجلس معك، فجلس معه حتى صلّى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتهدّدونه ويتواعدونه، فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله إليهم فقال: ما الذي تصنعون به؟ فقالوا: يا رسول الله، يهوديّ يحبسك؟ فقال صلى الله عليه وآله: لم يبعثني ربي عز وجل بأن أظلم معاهداً ولا غيره، فلمّا علا النهار، قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله، أما والله ما فعلت بك الذي فعلت إلا لأنظر إلى نعتك في التوراة؛ فإني قرأت نعتك في التوراة: محمد بن عبد الله مولده بمكة ومهاجره بطيبة، وليس بفظّ، ولا غليظ ولا سخَّاب، ولا متزين بالفحش، ولا قول الخناء، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذا مالي، فاحكم فيه بما أنزل الله”9.


د. الرحمة للحيوان

ونقرأها أيضاً في العديد من محطات تأريخه، منها:
ما ذكره أحد أصحابه عبد الرحمن بن عبد الله قائلاً: “كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته فرأينا حمرة (طائراً) معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “من فجع هذه بولدها؟ ردّوا ولدها إليها”.

هـ. الرحمة للمؤمنين
وقد نصّ الله تعالى عليها في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾10.

ومن مشاهد تلك الرحمة:
1. روي أن رجلاً أسود كان يكنس المسجد، فمات، فسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنه، فقالوا: مات، فقال (صلى الله عليه وآله):” أفلا كنتم آذنتموني به، دلّوني على قبره”، فأتى قبره فصلّى عليه.

2. وعن أحد أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله): ” كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد غليظ الحاشية فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه ثم قال يا محمد احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال (المال مال الله وأنا عبده – ثم قال ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي) قال لا، قال (لم؟) قال لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة فضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر”11.

3. خفّف النبيّ صلاته وأسرع، فسأله الناس: هل حدث في الصلاة شيء؟، فأجاب (صلى الله عليه وآله): “أوما سمعتم صراخ الصبي”.

و. الرحمة للعيال
ورد عن أنس: “ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله”.
ورد أنّه (صلى الله عليه وآله) كان يقول:
– البنت في البيت رحمة.
– احبّوا صبيانكم وارحموهم
– من قبّل ولده كتب الله له حسنة
وورد أنّه قال أحدهم: “إن لي عشرة من الولد، ما قبّلت أحد منهم”، فقال (صلى الله عليه وآله):”من لا يَرحم، لا يُرحم”.

رسول الرحمة بعد رحيله
تستمر رحمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته، بأمور جليلة منها:
أ. زيارة المؤمن له
ما شرّعه الله وحثّ عليه من زيارة مرقده الشريف.
1. عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): “من أتاني زائراً كنت شفيعه يوم القيامة”12.
2. عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) للإمام الحسين (عليه السلام): “يا بني، من زارني حيّاً أو ميتاً، أو زار أباك، أو زار أخاك، أو زارك كان حقّاً عليّ أن أزوره يوم القيامة وأخلصه من ذنوبه”13.
3. عن الإمام أبي جعفر (عليه السلام) في جواب من سأله: “ما لمن زار رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال (عليه السلام): له الجنّة.”14.

ب. زيارته للمحتضر
ورد عن الإمام أبي جعفر (عليه السلام): “من ختم القران بمكة لم يمت حتى يرى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويرى منزله من الجنة”.

ج. شفاعته يوم القيامة
أخبرني الروح الأمين أنَّ الله لا إله غيره إذا وقف الخلائق وجمع الأولين والآخرين أتي بجهنم تقاد بألف زمام، أخذ بكل زمام مائةُ ألف ملك من الغلاظ الشداد ولها هدّة وتحطم وزفير وشهيق، وإنها لتزفر الزفرة، فلولا أنَّ الله عزّ وجل أخّرها إلى الحساب لأهلكت الجميع، ثم يخرج منها عنق يحيط بالخلائق البرّ منهم والفاجر، فما خلق الله عبداً من عباده… إلا وينادي يا ربّ، نفسي نفسي وأنت تقول: يا ربّ، أمتي أمتي 15.

من صفة الرحمة التي جعلها الله تعالى غاية لإرسال خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) أراد الله تعالى أن تتجلّى هذه الصفة بين المؤمنين ليكونوا متراحمين مع بعضهم البعض، وتنحصر شدّتهم على أعداء الله والدين، على قاعدة قوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾16.

 

* الشيخ د. أكرم بركات

الهوامش:
1- الأنبياء: 7
2- القلم: 4
3- الأنبياء: 7
4- الأنبياء: 7
5- القرطبي، تفسير القرطبي، ج11، ص 350.
6- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج18، ص 243.
7- صحيح مسلم، ج5، ص 181.
8- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج21، ص 109.
9- المجلسي، بحار الأنوار، ج16، ص 217.
10- التوبة: 128.
11- القاضي العياض، الشفا بتعريف حقوق المصطفى ج1، ص 108.
12- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج4، ص 548.
13- المصدر السابق نفسه
14- المصدر السابق نفسه
15- الكليني، الكافي، ج8، ص 312.
16- الفتح: 29.

المصدر: http://arabicradio.net/news/70601

شاهد أيضاً

ثقافة الثورة عند الإمام الحسين عليه السلام

  قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *