قبيلة الرحمة (الفصل الأول: شأن الأدعية والزيارات)

إسماعیل شفیعی سروستانی
لقد جعل المعصومون من تعليم وتربية الشيعة، وجهتهم وهدفهم الرئيسي إبان حكم بني أمية وبني العباس، وبسبب غياب الظروف والمتقضيات اللازمة لحماية الكيان الثقافي للشيعة وشيعة آل محمد (ص)، فقد سعوا جاهدين لتفسير وتبيان الأصول والفروع العقائدية الولائية الشيعية وتخزين طاقة أهل الولاية للوقت والزمن المعلوم والمقدر.

 

ويمكن إعتبار “الأدعية المأثورة” بانها أكبر وأثرى المصادر “الحِكَمية واللاهوتية والأخلاقية” للمعصومين، وتكتسي آلاف الاستراتيجيات للوجود والحياة على امتداد التاريخ حتى موعد الظهور الأكبر لدولة الحق.
وحسب البيت القائل:

من الأفضل أن يذاع سر الأحباء                     على لسان الآخرين

فقد بين المعصومون، أربع فئات مهمة من الموضوعات الرئيسية في سياق الأدعية. وكانت هذه الطريقة هي الضمان لحفظ هذه المجموعة، لان لا أحد كان ينظر إلى الأدعية بمنظار الموضوعات الإستراتيجية. ومن جهة أخرى فان نوع الكلام والبيان، نظم بطريقة كان من غير الممكن أن يفهمه الخلفاء الأميون وأنصارهم من عديمي العقل.
إن سر بقاء وخلود هذه الأدعية، وبعد العناية الإلهية، يعود في جانب منه إلى هذا الموضوع المهم. وللأسف فان الشيعة وعلى غرار الخصوم، نظروا إلى هذه الأعمال المهمة من منظار “أدعية أهل الخلوة” وبمنأى عن التفكير واتخاذ موقف ضد أئمة الكفر. ولهذا السبب لا نرى أثرا لهذه الأعمال في أي من مراكز الدراسات الثقافية ومراكز الدراسات الاستراتيجية ومراكز صنع القرار العامة والفروع الدراسية (العلوم السياسية و الحقوق والعلوم الاجتماعية والكلام والفلسفة والتاريخ و…).
وبينت في كتاب “من قمة عاشوراء وحتى بحر الظهور” دقائق من “زيارة عاشوراء”. إن هذه الأدعية تطرح في الحقيقة أربع ساحات رئيسية من حياة الانسان في الكون بدءا من فرش الشيطان وصولا إلى عرض الرحمن، وتبين موقع ومكانة الانسان المؤمن والانسان الكافر وتشرح حسب السنن الإلهية، كيفية السر والسلوك في التاريخ وعبور جميع المراتب حتى الوصول إلى أعلى مرتبة للقرب إلى الله. إن التبيان فوق المكاني وفوق الزماني، يزيد من طاقة هذه الأدعية والإنطباعات التي تحتويها ويوسع نطاقها من الزمان الفاني حتى الزمان الباقي (أبد الآباد).
إن سمو الكلام وثراء المفاهيم والذوق الرفيع والمفردات والأدب الشاعري في هذه الأدعية، يشكل دليلا دامغا على التعرف على أصحاب هذه المفردات ونسبتهم للساحة القدسة المتعالية.
إن المراتب العليا والعرفانية والذوقية لهذه الأدعية، خاصة بها، وأن سائر الناس في ألف رتبة أدنى من المعصوم (ع)، وكل حسب دركه وفهمه وانطباعه، ينال حصة من كل هذا. إسمحوا لي القول أنه كلما كانت نسبة العباد من أصحاب المعرفة مع هؤلاء المعصومين رفيعي المقام والشأن الذين تجاوزا مرتبة “قاب قوسين”، أكبر أزيحت الستائر أكثر عن هذه الأدعية وتتكشف دقائقها.
وعلى الرغم من أن “دعاء الندبة” يمثل دورة كاملة لتعليم الموضوعات العقائدية، لكن ما يميز هذا الدعاء عن سائر الأدعية ويؤدي إلى أن أعتبره أحد المصادر الرئيسية للدراسات الثقافية ومعرفة حكمة التاريخ، هو رسم التيارات الرئيسية الجارية في التاريخ منذ بداية الخلقة وحتى عصر الظهور وقيام القيامة الكبرى. لذلك فان دعاء الندبة، هو دعاء الهداية الذي ينطوي على الواجب التبياني والخارطة الإلهية العامة.
كما أن الوجهة العقائدية لهذا الدعاء نابعة من الخارطة الإلهية العامة المرسومة فيه. إن سلسلة صبغة الله هي في عهدة الله تعالى ومتحررة من جميع التعهدات السارية، في حين أنها تعتبر نفسها منتمية بوفاء إلى ذلك العهد مباشرة. إضافة إلى حجة “كلام الله” الذي لا بديل له ما جعلهم يستغنون عن الرجوع إلى سائر “المصادر” غير الوحيانية، في حين أن العناية الربانية، جعلتهم يتصلون عن طريق ملائكة الرحمة بمصدر الغيب وحفظهم من الترديد والشك والخطأ. إن هذه السلسلة مدعومة بالتأيييدات الإلهية، تحمل المعرفة الوحيانية والعلم الحضوري والشهودي من دون وسيط، ولكونهم يحظون بمقام القرب، فانهم أصحاب أعلى درجات الكمالات الإلهية وبالتالي يملكون حق التصرف باذن الله. وكل هذا، أثبت مقام “الولاية” لديهم وفرض طاعتهم على سائر عباد الرحمن بل أوجبه.

لائحة المستضعفين الإتهامية

منذ اليوم الأول من خلقة آدم (ع) وبعده ذريته، كان ثمة تياران وسلسلتان أحداهما نوارنية والأخرى ظلمانية على وجه البسيطة. وحسبما يقول مولانا:
إن هذا الماء العذب وهذا الماء المالح     يجريان في عرقين منفصلين في الخلائق حتى يُنفخ في الصور
فجماعة تسلك المسار النوارني والحلو وبالطعم والنكهة والصبغة الإلهية ونجت من الظلمة وجماعة تسلك المسار الظلماني وتتسم بالصبغة الشيطانية لكنها انضمت إلى قبيلة النور هربا من الظلام.
وجعلت الجماعة الأولى “الله” وليها فيما اتخذت الجماعة الثانية من “الشيطان” وليا.
“اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ”؛
إن تياري الهداية والضلال طيلة التاريخ، هما كمعين ماء عذب ونبع ماء مالح، يسيران منذ بداية الخلقة وحتى النفخ في الصور. وهذان الإثنان لا يلتقيان أبدا وكل منهما يستقطب حسب نوعه وتجانسه، الأفراد والتيارات التي تشاطره الإتجاه والموقف.

أصحاب الظلام يجتذوبون أصحاب الظلام       وأصحاب النور يجتذبون أصحاب النور

إن المنتمين إلى قبيلة النور والفلاح، ينهلون من نبع الماء العذب ويرثون تعاليم الأنبياء الإلهيين والآيات السماوية، وفي المقابل فان المنتمين إلى قبيلة الظلام والشرّ يشربون من نبع الماء المالح والضلال ويرثون من إبليس اللعين والطاغوت.

الصالحون يرثون من المعين الذي لا ينضب           وما ذلك الميراث؟ أورثنا الكتاب

لذلك:

الكل يرتبط ويتصل بكوكب                 والمتصل بكوكبه يتسم بطابعه
وإن كان طالعه مرتبط بالزهرة                  فان توجهه العام سيكون نحو العشق والطرب
وإن كان مريخي وسفاك للدماء              فانه يبحث عن الحرب والبهتان والخصومة
إن الألوان الزاهية تنبع من مصدر الصفاء            والألوان القاتمة تنبعث من الظلام والجفاء

وقد نظم الإمام الصادق (ع)، لائحة المظلومين الإتهامية في سياق “دعاء الندبة الشريف” ويقدمه لحضرة قاضي القضاة والحكيم المتعال ومحضر الوجدان الحي للأناس الحكماء. وتقرر “لائحة الاتهام الشريفة” هذه بان مصدر ومكان تدفق الماء العذب هو أهل الولاية والمتمتعين بصبغة الله ومصدر التيار الظلماني، يتسم ب “لعنة الله” وأن السير والسفر الطويل لهذين التيارين قائم حتى النفخ في الصور وقيام القيامة الكبرى.
وبناء على ما ورد في الروايات والتفاسير، فان القصد من “صبغة الله” في الآية المباركة:
“صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ”؛
هو الإسلام أو العهد الذي أخذه الله على الناس في عصر بدء الخليقة والكون حول ولاية علي (ع). ويقول الإمام الصادق (ع) في هذا الخصوص: إن المقصود من صبغة الله هو الاسلام.  ويقول عليه السلام في رواية أخرى: إن المراد هو ولاية الإمام علي (ع) وهو العهد الذي أخذه الله في عالم الذر والميثاق على الناس.


إن صبغة الله هي ذلك اللون اللطيف                     ولعنة الله هي رائحة ذلك اللون القبيح

وكان المعصومون، يحذرون أتباعهم دائما من شرور الأهواء النفسانية ووساوس الشيطان. والدين الإلهي عُبر عنه في التفاسير ب “حبل الله، فطرة الله، صبغة الله”. والمراد من الصبغة يمكن أن يكون الطهارة وفطرة الانسان السليمة التي تأخذ تدريجيا وتحت إيحاءات ومعتقدات وقناعات الأب والأم الملونة، لونا وصبغة أخرى.

إن اللون الباقي، هو صبغة الله وحدها                  وما عداها معلق على الجرس
لون الصدق ولون التقوى واليقين                       ويبقى على العابدين إلى الأبد

شاهد أيضاً

قبيلة الرحمة (الفصل الثالث: تجاوز الأمة الواحدة )

إسماعیل شفیعی سروستانیووصفا وتبيانا للمنعطف الثاني المهم للبشرية، يذكرّ دعاء الندبة بما جرى للنبي نوح …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.